بقلم : محمد شومان
العلاقة بين الثورة المصرية غير المكتملة وأخلاق المصريين وقيمهم أصبحت أحد الموضوعات المطروحة للنقاش، ويدعي البعض أن الثورة أظهرت أسوأ ما في أهل مصر، وأدت إلى تدهور واضح في تماسك الأسرة وعززت الأنانية ونشرت التحرش بالمرأة، بعد تراجع قيم الشهامة والعمل المشترك والتعاون، علاوة على تعميق الاستقطاب بين الأجيال وزيادة الرغبة في الهجرة. في المقابل يرى البعض أن الثورة أظهرت أحسن ما لدى المصريين، حيث ازدهر العمل الجماعي وتشكلت مجموعات من المواطنين لحفظ الأمن والنظام في الأحياء السكنية، وبدا وكأن هناك لحظة تاريخية كان من الممكن الإمساك بها، والاستفادة منها في إحداث نهضة تنموية وديموقراطية، بدعم وإعجاب عالمي بما صنعه المصريون، لكن هذه اللحظة سرعان ما تبددت من وجهة نظري، وتحولت الثورة إلى نقيضها.
وقناعتي هي أن مقولة الثورة أخرجت أفضل ما لدى المصريين ونقيضه، هما نموذجان من الأحكام المتسرعة عن علاقة الثورة بالقيم والأخلاق. أعتقد أن الربط الميكانيكي المباشر بين الثورة وما يقال عن تدهور أو تحسن قيم وأخلاق المصريين، يتضمن مبالغات سياسية وأخلاقية غير مقبولة تحتاج إلى مراجعة شاملة في ضوء الملاحظات التالية:- أولاً: صعوبة دراسة القيم والأخلاق والسلوكيات أو قياس التغيير فيها والذي يتطلب سنوات طويلة، ودراسات مقارنة عبر فترات زمنية وهو ما لم يحدث، حيث أن المسح العالمي للقيم لم يشمل مصر في شكل منتظم، كما أن هناك إشكاليات في التمييز بين القيم والسلوك والأخلاق، والعلاقات بينهم. القصد أن مقولة إفساد الثورة لقيم وأخلاق المصريين غير صحيحة لأنها لا تستند إلى نتائج بحوث علمية اجتماعية أو مسوح لآراء واتجاهات المصريين، وإنما هي نتاج لبعض المقولات الانطباعية المتسرعة، التي تقارن بين صورة وردية لا تخلو من حنين لأخلاق وقيم المصريين في الماضي، وبين أنماط من القيم والسلوك المعاصر، وتركز على السلوك المنحرف لبعض المصريين غير الملتزمين بالقانون أو الدين أو الأخلاق العامة للمصريين. والحقيقية أن هذه المقارنات تعتمد منهج سلفي جامد في التفكير، يرى أن الماضي أفضل دائماً من الواقع والمستقبل، ويتجاهل حقيقة أن القيم والأخلاق والسلوك يطرأ عليها تغييرات عبر العصور نتيجة مجموعة من المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ثانياً: لا يمكن علمياً وواقعياً الربط بين حدث الثورة التي وقعت قبل أقل من ثماني سنوات، وبين تغيير القيم والأخلاق، سواء أكان التغيير إيجابياً أو سلبياً لأن عملية التغيير تحتاج إلى فترة زمنية أطول، وربما إلى حقب زمنية، كما لا يوجد عامل أو سبب وحيد يمكن به تفسير التغيرات في القيم والسلوكيات، حتى وإن كان هذا العامل هو ثورة أو انتفاضة شعبية واسعة. المعنى أن أي تغيير اجتماعي أو قيمي أو أخلاقي ينتج عن مجموعة متفاعلة من العوامل والأسباب، والتي لا بد من النظر إليها بموضوعية وبعيداً عن التسييس أو النزعة الانتقامية التي يمارسها البعض ضد فعل الثورة نفسه، والتي لم تكتمل ولم يشارك صناع هذه الثورة وهم الشباب المصري- قاطرة الحراك الشعبي ضد مبارك- في الحكم، حيث خطف الإخوان المسلمون، كما هو معروف الثورة، وساروا بها في مسار معقد وغريب استدعى تدخل الجيش بتفويض واسع من الشعب.
ثالثاً: أن هناك محاولات لتشويه ثورة كانون الثاني (يناير) وفكرة التغيير من خلال تحميلها المسؤولية عن كل السلبيات والمشكلات، التي يعاني من المجتمع المصري حتى اللحظة الراهنة، في هذا الإطار، فإن خصوم الثورة والتغيير، خصوصاً أنصار نظام مبارك يرون في 25 كانون الثاني (يناير) كارثة كونية ومؤامرة دولية هدمت الاقتصاد والأخلاق والقيم عند المصريين، وهدّدت تماسك الدولة المصرية وقوتها، وبالتالي يروجون مقولة «الثورة هدمت قيم المصريين وأخلاقهم»، وهي مقولة دعائية بامتياز لها جاذبية شعبوية، لأنها تفسر ببساطة وسطحية كثيراً من المشكلات والمظاهر السلبية التي يعيشها المصريون، والتي لا ترتبط بفعل الثورة وإنما ترتبط ربما بدرجة أعلى بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، التي جاءت بعد سنوات من الثورة، إضافة إلى أعباء فاتورة الإصلاح الاقتصادي والتي رفعت الأسعار ومعدلات التضخم وأعداد الفقراء. ولا شك أن هذه المتغيرات الاقتصادية قد يكون لها تأثير أكبر من فعل ثورة كانون الثاني (يناير) نفسه وتداعياتها، حيث بلغت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 27.8 في المئة عام 2016 وقبل خفض قيمة الجنيه المصري، وهو ما أدى عملياً إلى زيادة كبيرة في نسبة الفقراء يقدرها البعض بحوالى 33 في المئة من المصريين. رابعاً: لا بد من التسليم بحقيقة أن هناك تغيراً مستمراً في قيم وأخلاق وسلوك المصريين، كما يحدث لكل شعوب العالم، نتيجة العولمة وانتشار تكنولوجيا الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي وتسارع التغيير الجيلي، لكن هذا التغيير يحدث ببطء وفي شكل تراكمي، وقد يقع أيضاً في شكل تحولات سريعة في بعض القيم والسلوكيات المادية، بينما يظل التغيير أبطأ في القيم والسلوكيات غير المادية، نظراً إلى أهمية الدين في منظومة الأخلاق والقيم المصرية والعربية عموماً، فضلاً عن قوة القيم الأسرية والشعور بالرضا والأمان، وهي قيم واتجاهات اجتماعية أكد صحتها تقرير 2012-2014 المسح العالمي للقيم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن تبقي إشكالية ما هي قاعدة القياس للتغيرات في القيم والأخلاق والسلوكيات، وكيف نحكم أنها تغييرات إيجابية أم سلبية؟ وبأي معايير؟ هل معايير محلية أم دولية؟ وهل سيكون أساس التقييم هو أخلاق وقيم المصريين قبل نصف قرن أم قبل قرن من الزمان؟ أم سيكون التقييم اعتماداً على المعايير الدولية، ما يطرح إشكاليات ثقافية عدة؟ خامساً: أتصور أن هناك أهمية للتوافق على معايير للحكم على اتجاه التغييرات في القيم وأخلاق وسلوكيات المصريين، ويمكن أن تنطلق هذه المعايير من الثوابت التاريخية والثقافية التي نصّ عليها الدستور المصري، وأهمها احترام الدولة المدنية، والمساواة بين المسلمين وغيرهم والتدين الوسطي المعتدل للمصريين، واحترام الحقوق والواجبات لكل المواطنين، وتعزيز مكانة المرأة والأسرة في المجتمع. ويمكن القول في ضوء هذه المعايير إن هناك حاجة ماسة لتوفير تمويل للجامعات ومراكز البحوث المصرية لإجراء ح لقيم وأخلاق وسلوكيات المصريين، عوضاً عن الأحكام المسبقة والتي لا تخلو من تحيزات وأغراض سياسية ودعائية.
سادساً: أن قيم وأخلاق المصريين لم تنهار أو تفسد بعد ثورة يناير، كما يروج البعض، وإنما حدث نوع من الاستمرار، والتواصل منذ سنوات ما قبل ثورة 2011 وحتى اللحظة الراهنة، مع وجود تغيرات طبيعية (سلبية وإيجابية) نتيجة تفاعل عناصر خارجية وداخلية منها ما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي وإعلامي، إضافة إلى الثورة وما تلاها من أحداث حتى الإطاحة بالإخوان. لقد عرف الشارع المصري قبل سنوات من الثورة وفي ظل حكم مبارك بعض الظواهر والسلوكيات السلبية كالتحرش والفساد والعنف اللفظي والمادي والبلطجة والأنانية والنزعة الاستهلاكية، والرغبة في الهجرة، ولا تزال هذه القيم والسلوكيات حاضرة، ومؤثرة في أخلاق المصريين رغم محاولات التصدي لها. ولا تزال أيضاً القيم والأخلاق المصرية الإيجابية حاضرة ومؤثرة وتمثل التيار العريض والرئيسي في المجتمع، وإلا بماذا نفسر تماسك المصريين وتضحياتهم في مواجهة الإرهاب وفي دعم الدولة، وفي التعاون والعمل الخيري والتطوعي الذي خفّف كثيراً من الآثار السلبية لمشكلات الاقتصاد وأعباء الإصلاح الاقتصادي؟
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع