بقلم - محمد شومان
جرائم غريبة وربما جديدة من نوعها رصدتها الصحافة المصرية وتوسعت في النشر عنها خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ولوحظ أن غالبيتها وقعت في محيط الأسرة أو الأقارب وبالاعتماد على مستويات غير معهودة من العنف والانتقام؛ مثل أم تقتل رضيعتها انتقاماً من الزوج غير الوفي! أو أب يقتل أولاده، وغيرها من الأنماط الشاذة وغير المألوفة والتي قد تشي بتغيرات سلبية في منظومة قيم وعادات وسلوكيات المصريين. والمفارقة أن التوسع في نشر هذه الجرائم، لا يوازيه اهتمام بالتحليل والفهم، ومعرفة الأسباب ومحاولة توقع أو استشراف معدلات وأنماط الجريمة في مصر.
تراجع الاهتمام ببحوث الجريمة يرتبط بكثير من الأسباب؛ في مقدمها غياب الشفافية فلا تنشر حالياً تقارير وإحصاءات الأمن العام عن معدلات وأنواع الجريمة، وكانت مصر من أوائل الدول العربية والإفريقية التي تصدر سنوياً تقريراً عن أعداد وأنواع الجرائم وتوزيعها على مدن ومحافظات مصر، وقد اشتغلتُ منذ أكثر من 30 عاماً على هذه التقارير إبان عملي باحثاً في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في أواخر عصره الذهبي، عندما كان يتابع بالبحث والتحليل كافة أنماط الجرائم والظواهر الاجتماعية المرتبطة بها. في ذلك الوقت رصدنا كباحثين مهتمين بالجريمة من منظور سيوسيولوجي وسيكولوجي أن هناك تحولات في أنماط الجريمة وتوزيعها نتيجة تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي منذ العام 1974، كما رصدنا ظهور أنماط مستحدثة من الجرائم بعد التحول من اقتصاد معتمد على الدولة إلى اقتصاد يعتمد على القطاع الخاص. ومع ذلك كان لدى بعض الباحثين قلق مشروع يتعلق بتراجع إعداد الجريمة التي يسجلها تقرير الأمن العام سنوياً، وذلك رغم الزيادة السنوية في أعداد السكان، ورغم ما طرأ على المجتمع من تحولات اقتصادية واجتماعية.
وبغض النظر عن تحفظات الباحثين على دقة تقارير الأمن العام وعدم تسجيلها لكل الجرائم وكذلك عدم قيام بعض المجني عليهم بالإبلاغ عما تعرضوا له (الجرائم غير المبلغ عنها)، إلا أن هذه التقارير كانت الوثيقة الأساسية التي تعتمد عليها بحوث الجريمة في معرفة الاتجاهات العامة والأوزان النسبية لأنماط الجرائم. والغريب أنه مع التسعينات توقفت الشرطة عن نشر التقرير السنوي للأمن العام، وحرم الرأي العام وجماعة الباحثين من معرفة الصورة الكلية للجريمة حيث اقتصر توزيع تقرير الأمن العام على كبار المسؤولين في الدولة! ويبدو أن هذه الحالة مستمرة حتى اليوم؛ ما يحول عملياً دون تطور بحوث الجريمة ومكافحتها، وهي مهمة تتجاوز عمل الشرطة، لتصل إلى كل فاعليات المجتمع خصوصاً علماء الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والسياسة.
عدم نشر إحصاءات رسمية موثوقة عن الجريمة وأنماطها لا يمنع من القول بأن هناك وفي شكل منطقي زيادة مستمرة في الجرائم بأنواعها نتيجة زيادة عدد السكان، وانتشار القيم الاستهلاكية والتفكك الأسري، وفي الوقت نفسه زيادة الأعباء المعيشية على الطبقات الفقيرة والمتوسطة جراء سياسات الإصلاح الاقتصادي التي تضمنت خفض قيمة الجنيه وخفض الدعم الحكومي على الطاقة وكثير من السلع والخدمات (حوالي 28 في المئة من السكان تحت خط الفقر). وما يبعث على القلق أن الصحافة تنشر وفي شكل شبه يومي أنماطاً مستحدثة ومتنوعة من الجرائم، وهو ما لم يكن يحدث قبل عشر سنوات حيث كانت هذه النوعية من الجرائم نادرة، وكان حدوثها يشكل صدمة للمجتمع تفرض التوقف عندها ومناقشتها. القصد أن الجرائم الغريبة بين أفراد الأسرة والتي ترصدها الصحافة المصرية ليست جديدة تماماً وكانت تقع في فترات زمنية سابقة، لكنها كانت محدودة للغاية وربما نادرة، وباتت حالياً تقع بدرجة أكبر، ومن دون أن تثير اهتماماً كافياً من الرأي العام أو الحكومة، ما قد يعني أن المجتمع بدأ يتعود عليها وصارت رغم غرابتها وعنفها جزءاً تقليدياً من أخبار الجرائم.
وهناك أنماط مستحدثة من الجريمة ظهرت أخيراً ولم تكن معروفة في مصر، وهي الجرائم المرتبطة بسوء استعمال وسائل التواصل الاجتماعي كالسب والقذف والتشهير والابتزاز، إضافة إلى الجريمة المنظمة والتي غالباً ما يكون لها علاقات خارجية عابرة للحدود وتعتبر من وجهة نظر علماء الجريمة أحد تجليات العولمة. ولعل من أشهر تلك الجرائم الإتجار في البشر من خلال تهريب اللاجئين إلى إسرائيل وتجارة الأعضاء البشرية. وهناك أيضاً الهجرة غير الشرعية، والجرائم الإلكترونية العابرة للحدود. والثابت أن الأنواع الجديدة من الجرائم تعتمد على تكنولوجيا الاتصال من خلال استخدام هواتف مرتبطة بالأقمار الاصطناعية وشبكة الإنترنت وعمليات القرصنة الإلكترونية ومحاولات التسلل إلى مواقع بعض البنوك والمؤسسات. لكن لحسن الحظ فإن الجرائم الإلكترونية الحديثة والجريمة المنظمة - باستثناء الإرهاب الذي يعتبر أحد أشكال الجريمة المنظمة – تعتبر في مراحلها الأولى وأقل تطوراً من مثيلاتها في الدول المتقدمة، حيث تظل الجريمة مرآة صادقة لمدى تطور المجتمع ومستويات المعرفة بتكنولوجيا الاتصال والبرمجيات. وهنا أشير إلى مقولة سيد عويس؛ أستاذي في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، عن أن الجريمة تعكس مستوى تقدم كل مجتمع، وتعليم وخبرة الأفراد المتورطين في الجرائم بأنواعها.
على أي حال فإن غلبة الجرائم التقليدية على الجرائم الجديدة لا يقلل من الأعباء الملقاة على الشرطة، وهي كثيرة ومتنوعة ويجري تنفيذها في ظروف صعبه للغاية، ارتبط بعضها بما جرى لجهاز الشرطة أثناء ثورة 25 كانون الثاني (يناير) ثم حكم الإخوان عام 2012 وصولاً إلى مواجهة الإرهاب. والحقيقة إن الشرطة المصرية استعادت عافيتها وحضورها، وفي الوقت ذاته قدمت ولا تزال تضحيات كبيرة وسقط من أفرادها مئات الشهداء والمصابين في الحرب المشروعة ضد الإرهاب والجريمة. ومع ذلك لا تزال هناك حاجة إلى دعم وتطوير جهاز الشرطة وتحديث ما لديه من وسائل وآليات تستخدم في مكافحة الجريمة بأنواعها. والمؤكد أن جهود رجال الشرطة لا يمكن أن تنجح من دون دعم ومشاركة مجتمعية، أو ما يعرف بالمكافحة الشاملة، والتي قد يكون من بينها الارتقاء ببحوث الجريمة من حيث الكم والكيف، وتفعيل آليات استشراف الجرائم بأنواعها وربطها بالظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية والمستقبلية. فضلاً عن زيادة اهتمام الحكومة والمجتمع المدني بجهود الوقاية من الجرائم وتجفيف منابعها من خلال محاربة البطالة والفساد وتوسيع مظلة الخدمات الاجتماعية والرعاية النفسية، وزيادة الدور التوعوي للإعلام.