يمكن القول إن تاريخ دولة قطر قد شهد تحولات مهمة منذ وصول الأمير حمد بن خليفة إلى الحكم عام 1995، كان من أبرزها تنامي الدور الخارجي للدوحة على الساحتين العربية والدولية، وظهور أزمات دورية في علاقاتها مع أغلب دول الخليج والدول العربية. وجل هذه الأزمات لم يأت لأن أدوار السياسة الخارجية القطرية كانت تخصم من أدوار دول خليجية أو عربية؛ وإنما لأن الحكم اختار التحالف مع دول تهدد الأمن القومي العربي، كما اختار دعم جماعات إرهابية وتصدير أفكار ثورية والترويج لها عبر قنوات «الجزيرة» من دون أن يعمل بها أو يسعى الى تحقيقها داخل البلد.
ويبدو أن التحالفات الغريبة والمتطرفة للسياسة الخارجية القطرية جاءت لتعويض ضعف الإمكانات الجيوسياسية والتي لا تؤهل دولة صغيرة للعب أدوار إقليمية أو دولية كبيرة. من هنا يمكن تفسير اقترابها من القاعدة في أفغانستان وإيران وتحالفها مع جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات إرهابية، فضلاً عن مبادرتها للتطبيع مع إسرائيل. من هنا كان الطبيعي أن تتوتر علاقات الحكم في قطر مع عديد من دول الخليج والدول العربية وصولاً إلى الأزمة الأخيرة التي تتسم بالعمق والشمول وحدة الأخطار، وتعدد اللاعبين فيها، علاوة على حالة الاستقطاب التي ضربت قطاعات واسعة من الرأي العام الخليجي والعربي.
تدخل الأزمة الشهر الثامن من دون أن يظهر أفق للحل، بل على العكس هناك مؤشرات الى مزيد من التصعيد السياسي والدعائي وربما الاحتكاكات العسكرية والتي من الصعب التكهن بها أو التحكم فيها. في هذا السياق أعتقد بخطورة التسليم بمقولة أن واشنطن قادرة على التحكم في الأزمة أو تسييرها كما ترغب ووفق مصالحها في المنطقة، صحيح أن واشنطن لديها علاقات قوية مع كل أطراف الأزمة؛ لكن ذلك لا يعني نفي إرادات أطراف الأزمة أو التحكم في الاحتكاكات التي قد تقع بين الجيوش، وكان آخرها منع طيران الخطوط الجوية الإماراتية. القصد هناك مخاوف من تصعيد مفاجئ قد يصل إلى صدامات عسكرية وهو سيناريو مخيف وغير مرغوب، لكنه يجب أن يظل ضمن حسابات المستقبل، والأهم يجب عدم الارتكان لفكرة أن واشنطن تُسيّر الأزمة وقادرة على السيطرة على سلوك أطرافها.
وأتصور أن هذه الفكرة الوهمية سيطرت على سياسة الحكم في قطر وردود أفعاله نحو الأزمة، فالدوحة لم تتوقع سرعة وقوة قرارات الرباعي العربي بالمقاطعة الديبلوماسية والاقتصادية وإغلاق المنافذ البرية والأجواء، وركزت على تغيير موقف ترامب وكسب تأييد وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون. لكنها مع مرور الوقت حاولت استيعاب ما حدث واحتواء آثاره، وادعاء قوة وتماسك موقفها وقدرتها على الصمود، وقد بذلت قطر جهوداً ديبلوماسية ودعائية نشطة في واشنطن والعواصم الأوروبية وموسكو ركزت على المحاور التالية:
1- تدويل الأزمة: وذلك من خلال دعوة الولايات المتحدة ودول أوروبية الى تقديم المساعدة والدعم للجلوس إلى مائدة الحوار والتفاوض.
2- أقلمة الأزمة: سعت قطر إلى إدخال أطراف غير عربية في الأزمة، من خلال الاعتماد على كل من إيران وتركيا لتزويدها باحتياجاتها التي كانت تستوردها من دول التحالف الرباعي، وأهمها المواد الغذائية ومواد البناء والتشييد. وبالتوازي مع ذلك طلبت زيادة الوجود العسكري التركي على أراضيها، كما لوحت بإمكان زيادة التعاون مع إيران.
3- شراء الأسلحة: وقعت الدوحة مع الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وتركيا صفقات شراء أسلحة تشمل طائرات وسفناً ودبابات بقيمة 40 بليون دولار تقريباً، كما تجري مباحثات لشراء أسلحة روسية، وتهدف هذه الصفقات إلى إدخال المنطقة في سباق تسلح ومحاولة شراء تأييد الدول المنتجة للأسلحة.
4- طلب وساطة خليجية: رحبت الدوحة باستمرار الكويت في لعب دور الوسيط الذي قامت به خلال السنوات الأخيرة، من دون أن ينجح في تحقيق الاستقرار في علاقة قطر بدول الرباعي العربي، أو ينجح في حلحلة الأزمة الحالية.
5- تسييس الحج: في محاولة الدوحة استخدام كل ما لديها من أوراق حاولت توظيف واستغلال موسم الحج، حيث ادعت أن إغلاق الأجواء والطرق مع السعودية يحول دون قيام المواطنين القطريين بمناسك الحج لهذا العام، وذلك في محاولة مكشوفة للإساءة إلى دور السعودية في استضافة الحجاج من شتى بقاع الأرض، ومع ذلك قرر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز إرسال طائرات سعودية لنقل الحجاج القطريين واستضافتهم على نفقته الخاصة، وفتح الحدود البرية، لكن الدوحة وضعت عراقيل ورفضت الاستجابة لمبادرة السعودية بحجة أن السعودية تشترط وتُملي على الدّول طريقة نقل الحجّاج من دون التّنسيق مع الجهات المُختصّة في تلك الدّول. وعلى رغم انتهاء موسم الحج، فإن الدوحة وعبر بعض الجمعيات والأصوات المتحالفة معها تروج لما تسميه تدويل الحرمين، وهي تقريباً ذات الفكرة التي تروج لها إيران!
6- محاولة كسب تأييد الرأي العام الخارجي: قامت الدوحة بتوظيف مزيد من جماعات اللوبي الأميركي، وتأجير مزيد من شركات العلاقات العامة وإدارة المعلومات في العالم، ما يعني أن الحكم في قطر يتطلع إلى ترويج منطقه الدعائي وحشد وتعبئة جماعات الضغط مهما كلفه الأمر من أموال.
7- محاولة كسب الوقت: تعمدت الدوحة منذ بداية الأزمة إضاعة الوقت وتفادي المهل الزمنية التي منحتها لها دول الرباعية، كما سعت الى كسب مزيد من الوقت من خلال طلب وساطات وجلسات حوار، وذلك بهدف إعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها الإقليمية والدولية، أو انتظاراً ظهور مشكلات دولية قد تحرف الانتباه عن الأزمات التي تخلقها سياسات الدوحة، لكن أعتقد أن كسب الوقت أو تجميد الأزمة لن يصبّ في مصلحة قطر على المديين المتوسط والبعيد.
وتنشط قطر حالياً في إنتاج وترويج ثلاثة أنماط من الخطابات الديبلوماسية والدعائية، الأول موجه للرأي العام الغربي ودوائر صنع السياسة في أوروبا والولايات المتحدة، والثاني موجه للداخل القطري، والثالث موجه لشعوب مجلس التعاون الخليجي، ولعل أهم ركائز وآليات الخطابات الثلاثة هي:
1- ادعاء المظلومية: روج الخطاب لفكرة أن قطر دولة صغيرة، ومحاصرة من جيرانها، بسبب اتهامات غير صحيحية عن دعمها جماعات إرهابية، بينما هي في الواقع أحزاب وجماعات سياسية وصل بعضها للحكم من خلال انتخابات ديموقراطية، كما هي الحال بالنسبة الى جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. ويغفل هذا الخطاب أن الشعب المصري أطاح بحكم «الإخوان» واعتبر «الإخوان» جماعة إرهابية في مصر والسعودية ودول عربية عدة.
2- التدخل في شؤون قطر الداخلية: يدّعي خطاب الدوحة أن مطالب دول الرباعي العربي هي نوع من التدخل في الشؤون الداخلية لقطر وانتهاك لسيادتها، لذلك فهي ترفض التسليم بهذه المطالب وتقترح الحوار والتفاهم بدلاً من المواجهة. والمفارقة أن هذا الخطاب يتجاهل تدخل قطر المستمر في أمن واستقرار دول عدة بالمنطقة.
3- تقييد حرية الإعلام: تدّعي قطر أن دول الرباعي العربي تطالب بإغلاق قناة الجزيرة، وهو ما يعني انتهاك حرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام، وهو ما أدى وفق الخطاب القطري إلى كسب تعاطف عالمي واسع، خصوصاً في دوائر منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن حرية الصحافة والإعلام، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يثبت فعلياً أن دول الرباعي طالبت بإغلاق القناة، وإنما صدرت مطالبات في مناسبات متفرقة بضرورة التزام الجزيرة بالقواعد المهنية في تغطيتها للأحداث، وعدم السماح لممثلي الجماعات الإرهابية بتوجيه خطابات عبر الجزيرة تحض على الكراهية وممارسة العنف والاهاب.
4- ادعاء قوة وتماسك الموقف القطري: يدّعي الخطاب الدعائي القطري أن موقف الرباعي العربي شكّل نوعاً من التحدي والتهديد الخارجي، ما خلق إجماعاً بين القطريين على الدفاع عن سيادتهم وسيادة واستقلالية قرارهم، ورفض كل أشكال الإملاءات والهيمنة الخارجية.
في الختام، أعتقد أن الخطابات التي تروج لها الدوحة تفتقر للصدقية ولا تصمد أمام أي نقاش، فهي تعتمد على منطق صوري، وعدد من المغالطات، لذلك فهي لم ولن تنجح على رغم كلفتها المالية الكبيرة، ذلك لأنها تتعارض مع الحقائق على الأرض، فالدوحة تواصل دعم جماعات إرهابية، إضافة إلى محاولة إقامة تحالفات مع أطراف دولية وإقليمية بينها اختلافات عميقة مثل إيران والولايات المتحدة وتركيا.
نقلا عن الحياة اللندنية