بقلم - محمد شومان
احتفلت مصر بمرور 66 عاماً على ثورة تموز (يوليو)، الحدث الأكبر في تاريخها المعاصر، بصفتها غيّرت وجه الحياة في هذا البلد عبر سلسلة من التحولات في الاقتصاد والسياسة والبناء الاجتماعي وطبيعة الدولة وعلاقة الجيش بالدولة وبالمجتمع. والمفارقة أنها بدأت كانقلاب عسكري لكنها تحولت إلى ثورة شاملة لا تزال تؤثر في حياة مصر، ولا تزال أحد أهم مصادر شرعية جمهورية عبد الفتاح السيسي، وهو الدور نفسه الذي لعبته في جمهوريات جمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك. «ثورة يوليو» بإنجازاتها داخلياً وعربياً وأفريقياً، وبإخفاقاتها الكبيرة لم تبق فقط مصدراً للشرعية وإنما باتت مصدراً أيضاً للإلهام ونموذجاً يمكن الاقتراب أو الابتعاد مِنه بحسب طبيعة كل مرحلة والسمات العامة لكل جمهورية من جمهوريات يوليو 1952. والمتأمل لتاريخ مصر يرصد بسهولة عناصر وسمات عامة لـ «ثورة يوليو» ولجمهورية عبدالناصر امتدت وأثّرت في كل جمهوريات مصر وصولاً للرئيس السيسي. في هذا السياق يناقش المقال أهم عناصر الاستمرار والانقطاع للسمات الأساسية لجمهوريات يوليو وتجلياتها المختلفة في جمهورية السيسي.
السمة الأولى: الدور المركزي للرئيس أو الزعيم في اختيار التوجهات الرئيسية وصياغة السياسات العامة والإشراف على تنفيذها، وبالتالي بروز دور مؤسسة الرئاسة. وأعتقد أن السيسي حافظ على هذه الممارسات والتقاليد، والتي لم يخرج عنها رؤساء مصر السابقون، الذين التزموا فكرة تجسيد الدولة والحفاظ عليها، والتوسع في الاعتماد على أهل الثقة وبيروقراطية الدولة في كثير من الأمور، وتجنب الدخول في رهانات قد لا تكون سليمة بالاعتماد على أهل الخبرة من الوافدين الجدد إلى مؤسسات الدولة.
السمة الثانية: اعتماد كل رؤساء مصر السابقين على الجيش للحفاظ على كيان الدولة ومواجهة التهديدات الخارجية، فضلاً عن تكليفه بأعمال تنموية. التزم عبدالناصر بهذا النهج، وسار على دربه السادات، ثم مبارك وإن كان بدرجة أقل بما أنه راهنَ على دور نشط للقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي. أما الرئيس السيسي فتوسع في الاعتماد على الجيش في المشروعات التنموية الكبرى نتيجة ظروف موضوعية، لعل أهمها ضعف القطاع العام بعد ما تعرضَ له مِن تصفية وبيع أصوله إبان عصر مبارك، وتقاعس غالبية شركات القطاع الخاص عن الاستثمار في البنية التحتية والصناعة والزراعة، وبالتالي ظهرت الحاجة إلى قاطرة للتنمية تتسم بالجدية والانضباط والشفافية، وهو ما يجسده الجيش بوضوح في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها مصر الدولة والمجتمع.
السمة الثالثة: تغليب الاعتبارات الأمنية ومتطلبات التنمية على الديموقراطية، فقد حرص عبدالناصر على تنمية مصر ومكافحة الفقر وتوفير الحقوق الاجتماعية أو ما عرف بتحقيق الديموقراطية الاجتماعية كشرط ومقدمة للديموقراطية السياسية التي لم يهتم بها، ما أدى إلى تضييق المجال العام وغياب النقد والتنوع. وكان ذلك من أهم أسباب انهيار الناصرية. والمفارقة أن هذا النهج استمر وامتد في كل جمهوريات يوليو 1952، حيث اعتمده السادات على رغم خطابه المتكرر عن الحريات والديموقراطية، وكذلك مبارك الذي سمح بتعددية محسوبة ومجال عام تُمكِن السيطرة عليه.
السمة الرابعة: دخلت كل جمهوريات مصر– ومن قبلها النظام الملكي– في صدامات عنيفة مع جماعة «الإخوان المسلمين»، وخاضوا ضدها صراعات ممتدة شملت الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي خبرت مِن عباءة «الإخوان»، فقد رفض رؤساء مصر جميعاً- ما عدا محمد مرسي- الدولة الدينية، وحرصوا على مؤسسات الدولة الوطنية المدنية بكل مكتسباتها القانونية وفي مقدمها المساواة بين المواطنين ما يعني تأكيد الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط. لكن هذا التوجه تعرّض لقدر من الارتباك عندما استخدم السادات عام 1971 ورقة الدين في إطار صراعه مع قوى اليسار والناصريين، وحافظَ مبارك على تقاليد دولة يوليو، بيد أن اقترابه من «الإخوان» وتوظيفهم ضد الجماعات الإسلاموية المتطرفة سمحَ لهم بلعب أدوار سياسية واجتماعية مهمة، أدت إلى ظهور مشكلات وتوترات في الساحة السياسية؛ أهمها خلط وتوظيف الإسلام في السياسة وزيادة قلق الأقباط. ومع تعثر ثورة كانون الثاني (يناير) وأزمة وصول «الإخوان» لحكم مصر، جاءت ثورة «30 يونيو» لتحسم خيار الشعب والجيش في الحفاظ على مدنية الدولة المصرية والرفض الكامل لقيام دولة دينية. من هنا، فإن الإطاحة بـ «الإخوان» يمثل أحد أهم إنجازات السيسي وأهم مصادر شرعيته، كما يكشف في الوقت ذاته عن أسباب العداء «الإخواني» للسيسي ومسلسل العمليات الإرهابية الذي يستهدف مصر.
السمة الخامسة: الالتزام بالدوائر الثلاث في السياسة الخارجية، وهي العربية والإسلامية والأفريقية، وقد وردَ ذكر هذه الدوائر في «ميثاق الثورة» الذي صدر عام 1954، أي قبل ميلاد الرئيس السيسي، ومع ذلك فإن الرجل يلتزم بها لأنها تعكس حقائق جيوسياسية وتاريخية وثقافية أساسية بالنسبة إلى مصر لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها. في هذا الإطار يعتبر اهتمام السيسي باستعادة دور مصر في أفريقيا وعودة الديبلوماسية المصرية النشطة للقارة السوداء من أهم إنجازاته، إذ حاول تعويض ابتعاد مصر في عهد مبارك عن أفريقيا، وأعاد تقليداً مصرياً يمتد منذ أسرة محمد علي وحتى عبد الناصر؛ يتمحور في الاهتمام بأفريقيا ومنابع النيل وتأمينها.
السمة السادسة والأخيرة تمثل أهم اختلاف بين جمهورية السيسي و «جمهوريات يوليو» السابقة حيث أنهى السيسي دولة الرعاية التي دشنتها «ثورة يوليو»، التي كانت تقوم على تقديم دعم سخي يستفيد منه أحياناً غير المستحقين مقابل دعم الرئيس ونظام الحكم. والثابت أن السادات ومبارك حافظا على هذه الصيغة كل بطريقته، مِن باب كسب الشعبية والتأييد على حساب الأداء الاقتصادي الرشيد ومتطلبات إصلاح الموازنة العامة. لكن السيسي صاحب الشعبية الواسعة؛ اختار أن يخوض معركة إصلاح اقتصادي شامل وفق روشتة صندوق النقد الدولي، ومن دون النظر إلى الآثار السلبية التي قد تؤثر في شعبيته. اختار السيسي أيضاً أن يصارح الناخبين بخطورة الأوضاع الاقتصادية وضرورة الصبر والتحمل لتحقيق التنمية لمصلحة الأجيال القادمة. وبغض النظر عن سلامة هذا النهج وآثاره المتوقعة على العدالة الاجتماعية، إلا أنه يؤكد جرأة السيسي وشجاعته في اتخاذ القرارات الصعبة التي تفاداها رؤساء مصر السابقون. كما يشير إلى أن هناك تحولاً مهماً عن ثوابت «ثورة يوليو» وسياساتها الشعبوية
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع