بقلم - محمد شومان
منافسات بطولة العالم في كرة القدم- المونديال- هي الحدث المشهدي الأكثر إثارة ومتابعة عبر العالم، تكنولوجيا الاتصال والبث المباشر والعولمة والبزنس والسياسة والتنافس الرياضي وصراع الهويات... كل هذه الأشياء ابتكرت أكبر مسرح عرفته البشرية، حيث يتجمع مئات الملايين لمتابعة مباريات المونديال، ثم ترتفع أعداد المشاهدين إلى قرابة ثلاثة بلايين لمتابعة المباراة النهائية، على الرغم من تباعد المسافات بينهم واختلاف التوقيتات والثقافات.
الساحرة المستديرة تجمع كل هؤلاء... وتوحدهم في شكل استثنائي وموقت لمدة 90 دقيقة، بعدها يتوج بطل العالم في كرة القدم ثم يتفرق الجمهور، وتتلاشى تدريجاً مشاعر الفرح أو الحزن أو متعة المتابعة، وتصير مباريات المونديال جزءاً من الذاكرة، التي تضعف مع الأيام، ليستعد الجميع لمونديال جديد.
المونديال نفسه، وعبر سنوات عمره الـ88 (بدأ عام 1930) صار لعبة رمزية... أرقام وإحصائيات... بزنس كبير ينظم كل أربع سنوات، بعد تصفيات داخل كل قارة وصولاً إلى المونديال نفسه، الذي أصبح حالة تمسرح كبير ومبهج في الواقع الفعلي، وعبر الشاشات والواقع الافتراضي، لكنه ينطوي على عدة تناقضات لعل أهمها:-
التناقض الأول بين عولمة طقوس المشاهدة وتجميع البشر حول الشاشات واستهلاك رموز المونديال (شعارات– صور لاعبين– أهداف مثيرة– إعلانات) وبين ارتفاع حدة التنافس الوطني والتمايز بين الهويات الثقافية والقومية، فكل فريق تحركه دوافع وطنية ورياضية، كذلك الحال بالنسبة لجمهور وحكومة كل فريق، من هنا يمكن النظر إلى مباريات المونديال باعتبارها نوعاً من الصراع السياسي والهوياتي الذي قد يحل محل الصراع السياسي والحروب المباشرة، أقصد أن تحلق الجماهير والحكومات حول فريقها هو نوع جديد معاصر من ممارسة الصراع حول الهويات الوطنية، لكنه أقل ضرراً من ممارسة الصراع السياسي أو الحرب. وبالتالي تتراجع إلى حد كبير فكرة أن كرة القدم آلية لتحقيق العولمة أو خلق التفاهم والوحدة بين البشر، في هذا السياق وقعت كثير من الأزمات بين الدول بسبب مباريات لكرة القدم، إضافة إلى الاشتباكات الدموية التي وقعت بين مشجعي الفرق الرياضية. لذلك أعتقد أن تجمع مئات الملايين حول الشاشات لمتابعة المونديال هي حالة موقتة ولا تعني تغييراً في اتجاهات أو سلوك البشر نحو مزيد من التفاهم أو التقارب الثقافي، وإنما هي تزامن وحضور بشري لمتابعة نوع من الصراع في أرض الملعب، ينتهي مع إعلان النتيجة.
التناقض الثاني بين السياسة وكرة القدم، فمن الناحية النظرية لكل منهما مجاله، وهناك حرص على مستوى الخطاب المعلن للحفاظ على استقلال الرياضة خصوصاً كرة القدم، الرياضة الأكثر انتشاراً وشعبية في العالم، لكن الممارسات الفعلية في تاريخ اللعبة ومنذ تأسيسها تؤكد التداخل بين كرة القدم والسياسة، ومحاولة أحزاب وقوى سياسية وحكومات وحكام مستبدين استغلال كرة القدم لصالحهم، واستغلال نجوم كرة القدم لتلميع صور بعض الحكام وإكساب بعض الحكومات شرعية مزيفة، أو إلهاء الشعوب وحرف اهتمامها عن مشكلات حقيقية في أرض الواقع، وأخيراً محاولة تحقيق انتصار في كرة القدم يعوض عن هزائم في الاقتصاد أو ميادين القتال... والأمثلة كثيرة عبر التاريخ... موسوليني استغل فوز إيطاليا بالمونديال عامي 1934، 1938، وفي السبعينات والثمانينات استغل جنرالات أميركا اللاتينية كرة القدم للترويج لأنفسهم وكسب شعبية زائفة. ولا يزال التاريخ يكرر نفسه، فاستضافة روسيا بوتين للمونديال تمثل نوعاً من تجميل الصورة، وهناك ما يقال حول استقبال قديروف وتكريمه لمحمد صلاح، كما أن استضافة قطر للمونديال القادم تكشف عن محاولة الدوحة تحقيق حضور أكبر من حجمها على الساحة العالمية. لكن من الإنصاف القول إن المسؤولين واللاعبين يتحملون قدراً كبيراً من المسؤولية، لأنهم سمحوا للسياسة ولغة المصالح والبزنيس باختراق عالمهم الذي شيد على أساس الموضوعية والإنصاف والمنافسة الشريفة، ما يعني أن المصالح المتبادلة غير الشريفة بين السياسة وبعض الرياضيين أساءت لكرة القدم، ولمدى حياد وموضوعية الفيفا المنظمة الأكبر والأكثر سطوة في العالم. والتي كشفتها قضية رشى استضافة قطر لمونديال 2022.
التناقض الثالث بين شعبية كرة القدم وانتشارها الواسع وبين دعوات منح أو تحريم مشاهدتها، فعبر التاريخ ظهرت دعوات أيديولوجية عديدة مثل الماركسية والماوية ترى أن كرة القدم سلاح في يد البرجوازية توظفه من أجل تزييف الوعي الطبقي للجماهير وصرف انتباهها عن مشكلات الواقع، والغريب أن مثل هذه الدعوات قد ظهرت في سياق المد الأصولي الإسلاموي أو المسيحي أو الهندوسي، ولكن اعتماداً على أسباب ومبررات أخرى كصرف انتباه المؤمنين عن العبادة ونشر روح التعصب والعنصرية، والمفارقة أن كل هذه الدعوات فشلت في حصار انتشار كرة القدم عالمياً وتغلغلها بين أنصار تلك التيارات الأيديولوجية أو الدينية، ما يؤكد قدرة كرة القدم على تجاوز الأيديولوجيات فضلاً عن الاختلافات الثقافية والاجتماعية.
التناقض الرابع بين قيم كرة القدم كرياضة شعبية تتسم بالبساطة والشفافية واللاطبقية في اللعب والمشاهدة، وبين تحويلها إلى مجال للاستثمار الرأسمالي والربح المالي، أي تحويلها إلى صناعة أو بزنيس بما يتضمنه ذلك من تسليع اللعبة واللاعبين والمدربين، وتسليع بث ونقل المباريات عبر الشاشات، هذا التحول جرى عبر العديد من المحطات بداية من تحويل اللاعبين من الهواية إلى الاحتراف، وبيع وشراء الأندية واللاعبين، وشراء مستثمرين دوليين لأندية وطنية عريقة في أوروبا وأميركا اللاتينية، وصولاً إلى بيع حق التغطية والبث التلفزيوني ورعاية الأندية والإعلانات، ولا يوجد تقدير متفق عليه لاستثمارات كرة القدم في العالم، لكن تكفي الإشارة إلى أن خمس شركات دولية دفعت 1.3 بليون دولار لرعاية مونديال 2014، وسددت شركات النقل التلفزيوني 1.7 بليون دولار. ومن المتوقع أن تصل حصيلة بيع حقوق البث المباشر والعلامات التجارية في المونديال الحالي إلى حوالى من 8- 10 بليونات دولار، وتصل الأرباح من جذب أموال الرعاية من الشركات إلى نحو 4.4 بليون دولار. وأنفقت روسيا نحو 13 بليون دولار لاستضافة المونديال بينما تتوقع تحقيق عائد يقدر بحوالى 23 بليون دولار، ولا شك أن هذه الأرقام تثير شهية المستثمرين والعاملين في مجال الإعلانات والتسويق، وقد دخل الأخير منذ فتره على الخط حيث يجري تسويق كل ما يتعلق بكرة القدم ونجومها وأنديتها ورموزها.
التناقض الخامس بين بساطة ولا طبقية كرة القدم وبين احتكار حقوق البث وزيادة تكلفة مشاهدة مباريات كرة القدم خصوصاً المونديال، بما قد يؤدي إلى انتهاك حقوق المواطنين الاتصالية وحرمانهم من متعة مشاهدة كرة القدم، وقد عانت قطاعات واسعة من شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من احتكار قناة بي أن سبورت القطرية ورفع أسعار الاشتراك في قنواتها التي تبث المباريات، ما يستدعي تدخل الحكومات لدى الفيفا لوضع أسس وقواعد جديدة لتنظيم بث مباريات المونديال مع منع الاحتكار بكافة صوره، لأن استمرار الأوضاع الحالية سيمكن القادرين مادياً فقط من المشاهدة الفورية، وقد يحرم مئات الملايين حالياً وفي المستقبل من المشاهدة في ظل توقعات بزيادة أسعار المشاهدة، ولا شك أن تحويل كرة القدم إلى بزنيس أو صناعة كما يقول البعض سيؤدي إلى ظهور طبقية مقيتة في ممارسة اللعبة ومشاهدتها، ربما تهدد مستقبل كرة القدم نفسها حيث ستقلص من جمهورها وقاعدة اللاعبين والمشاهدين وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم نجوم كره القدم من أبناء الطبقات الفقيرة في دول العالم!
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع