بقلم - محمد شومان
قال الرئيس السيسي، قبل أسبوعين، إن مصر واجهت خلال الأشهر الثلاثة الماضية 21 ألف إشاعة، مؤكداً أن الهدف من هذه الإشاعات هو إثارة البلبلة ونشر الفوضى، وعدم الاستقرار وصناعة الإحباط وفقدان الأمل بين الشعب. وأشار السيسي إلى أن الإشاعات هي إحدى أدوات الجيل الرابع والجيل الخامس من الحروب التي تستهدف مصر والمنطقة العربية.
الرقم الذي أعلنه السيسي يعني أن مصر تعرضت لنحو 230 إشاعة كل يوم خلال ثلاثة أشهر، بمعدل 9 إشاعات كل ساعة! وهو رقم كبير ومثير للنقاش حول مفهوم وحدود الإشاعة وهل تشمل الأخبار المزيفة والكاذبة Fake News أم تقتصر على الإشاعة بمفهومها التقليدي، والذي يرتبط بأي عبارة أو قضية مهمة ومثيرة وقابلة للتصديق يتداولها الناس في أحاديثهم الشفاهية أم هي كل خبر أو صورة أو مقطع فيديو يتم تداوله عبر وسائل التواصل ووسائل الإعلام التقليدية؟ وبغض النظر عن طبيعة الإشاعات وأشكالها أو أهداف أصحابها فإن الرقم الذي أعلنه رأس الدولة المصرية يؤكد أننا إزاء ظاهرة لا بد من إخضاعها للبحث والدراسة العلمية الرصينة وإيجاد حلول عملية وسريعة لتطويقها والحد من آثارها السلبية. في هذا السياق يمكن مناقشة أهم أبعاد ظاهرة الإشاعات في مصر:
البعد الأول يتعلق بسيولة الظاهرة فمن الصعب تحديد أعدادها، ومضامينها، ومنتجيها، ومروجيها. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أعلنت لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في البرلمان نتائج دراسة أشرفتُ عليها، وخلصت إلى أن مصر شهدت 53 ألف إشاعة في 60 يوماً منها 70 في المئة روّجتها وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا العدد يزيد كثيراً على ما أعلن عنه السيسي. من جانب آخر هل ينتج المعارضون وقوى الشر بحسب تعبير الرئيس السيسي هذه الإشاعات لتحقيق أهداف معينة، أم أن قسماً منها ناتج من التسرع والاستخفاف واللامهنية في العمل الإعلامي، علاوة على حب الظهور لدى بعض نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي؟
البعد الثاني يرتبط بغياب المعلومات أو التأخير في تقديمها للإعلام وللمواطنين ما يخلق مناخاً من الغموض والقلق، ويفرز تلقائياً إشاعات أو يسمح لبعض قوى المعارضة خصوصاً «الإخوان المسلمين» بإنتاج إشاعات والترويج لها. من هنا لا بد من إعادة النظر في مهام الاتصال والإعلام بين المسؤولين على مستويات الدولة ووسائل الإعلام والرأي العام، مع تأكيد أهمية التواصل الفوري مع وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن القول إن معظم المسؤولين يخافون من الميديا ولا يحسنون التعامل معها، كما أن هناك تقاليد بيروقراطية موروثة في مؤسسات الدولة تعرقل حرية المعلومات وتدفقها وتبطئ من سرعتها. وهي أمور تستوجب معالجات شاملة، وتدريباً للمسؤولين على مهارات التعامل الفعال مع الميديا، إضافة إلى إصدار قانون حرية تداول المعلومات والذي سيقلص مساحة الغموض ويتيح للإعلام وللمواطنين الحصول على المعلومات الصحيحة من الحكومة والمؤسسات الخاصة.
البعد الثالث هو البطء في التعامل مع الإشاعات، حيث يقوم مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء بتجميع الإشاعات كل أسبوع ثم يقوم بالرد عليها في تقرير واحد يصدر أسبوعياً، وبعد أن يكون قد ظهر مزيد منها أو انتهى بعضها ومات، إلا أن الرد عليها قد يعيدها إلى الحياة. القصد أن الجهة الحكومية الوحيدة المعروفة برصد الإشاعات والرد عليها تعمل ببطء وبمعدلات أداء أقل بكثير من قوانين وآليات ظهورها وانتشارها. في هذا الإطار ربما يكون من المفيد تطوير أداء مركز المعلومات التابع للحكومة، وكذلك منح الناطقين الرسميين على مستوى كل وزارة صلاحيات أوسع في رصد الإشاعات والرد الفوري المدعوم بالوثائق والصور والأفلام على كل إشاعة مهما بدت صغيرة أو غير مؤثرة.
البعد الرابع يتمثل في التعامل مع الإشاعات بمعايير مزدوجة، حيث لا يتم الرد على بعضها الذي قد يصب في مصلحة الحكومة أو إحدى هيئاتها، ويمنح الجمهور أملاً ووعوداً غير حقيقية مثل إشاعة العثور على بليونات من الدولارات في أحد أوكار الجماعات الإرهابية في سيناء والذي جرى تداوله على نطاق واسع قبل بضعة أشهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تقم أي جهة رسمية بتكذيبه أو تأكيده. والمفترض أن تشمل الجهود الرسمية كل أنواع الإشاعات الإيجابية والسلبية من دون تمييز، مع تطوير أداء النظام الإعلامي، والاهتمام برفع الوعي العام لدى المواطنين باعتباره المدخل الصحيح لمواجهة الإشاعات.
البعد الخامس والأخير يرتبط بعدم وجود بحوث ودراسات علمية موثوق فيها ترصد الظاهرة، وأسبابها، ومدى تأثيرها أو خطورتها، فثمة جوانب سوسيولوجية ونفسية واقتصادية وإعلامية يمكن من خلالها فهم أسباب ظهور الإشاعات وآليات عملها وانتشارها، وأظن أن الأزمات التي تمر بها مصر والتحولات الاجتماعية الناجمة عن الإصلاح الاقتصادي– روشتة صندوق النقد– تثير قلقاً مشروعاً ومخاوف لدى قطاعات واسعة من المصريين، ما يساهم في شكل تلقائي في إنتاج إشاعات وسرعة تداولها، كما يساعد المعارضين لنظام السيسي في استغلال المناخ العام وتأليف إشاعات مغرضة وترويجها، لكن تبقى أسئلة مشروعة تتطلب قيام مراكز بحثية بالإجابة عليها، أهمها حقيقية تأثير الإشاعات في وحدة الشعب المصري وتماسكه، ومدى تأثيرها في شعبية السيسي وحكومته؟ وهل أثرت الإشاعات في ثقة المصريين في أنفسهم وقدرتهم على التحمل والخروج من الأزمة الاقتصادية التي تحاصرهم؟ ثم ما علاقة هذه الإشاعات بضعف الأحزاب وتراجع المشاركة السياسية؟ وهل صحيح أن الإشاعات ترتبط بنظرية المؤامرة التي يجري الترويج لها!
الأبعاد السابقة تفرض تحركاً حكومياً وشعبياً لوقف محاولات التوظيف السياسي والدعائي للإشاعات والحد من المبالغات التي ترتبط بتأثيرها في المجتمع المصري، وأعتقد أن البداية الصحيحة تأتي من خلال تشجيع ودعم البحث العلمي الاجتماعي والنفسي لفهم أسباب ظهور الإشاعات وانتشارها وحقيقة تأثيرها وكيفية مواجهتها والحد منها، وتفرض الأمانة العلمية على أي جهد بحثي الانطلاق من حقيقة أن الإشاعات والأخبار الكاذبة أصبحت ظاهرة عالمية تعرفها كل المجتمعات وفي مقدمها الولايات المتحدة وأميركا، كنتيجة طبيعية لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتطور تكنولوجيا الاتصال والإنترنت ما يسمح بسرعة نشر الأخبار والصور المزيفة وصعوبة التحقق منها وتكذيبها بسرعة. أي أن الأخبار الكاذبة والإشاعات ليست ظاهرة مصرية تماماً، وإنما هي جزء من ظاهرة عالمية اكتسبت في مصر أبعاداً سياسية واجتماعية كثيرة وغريبة نتيجة الأزمات والتحديات الصعبة التي تعيشها مصر منذ ثورة كانون الثاني (يناير)2011 غير المكتملة.
لقد سادت لعقود طويله خلال القرن العشرين فكرة أن التطور في تكنولوجيا الاتصال والإعلام وسرعة بث الأخبار والمعلومات سيقلص من فرص ظهور وانتشار الإشاعات والأخبار المزيفة، لذلك عندما ظهر الإنترنت انتعشت هذه الفكرة وصاحبتها آمال عريضة في إمكان قضاء البشرية على الإشاعات، لكن المفارقة أن تكنولوجيا الاتصال وفضاء الإنترنت والحرية التي أتاحها ثم وسائل التواصل الاجتماعي. كل ذلك أدى إلى خلق– ومن دون قصد- مناخ مناسب للإشاعات، ولم يتحقق تواصل جيد وتفاهم بين البشر. في ضوء ذلك، أظن أنه مهما بُذل من جهود حكومية وشعبية لمواجهة الإشاعات فإنها لن يتم القضاء عليها، لأن الإشاعات ظاهرة مجتمعية كان لها حضور وتأثير عبر كل المجتمعات وفي كل العصور، بالتالي فإن المطلوب هو الحد من أعدادها وحصارها واحتواء آثارها السلبية من دون إبطاء وأيضاً من دون مبالغة أو توظيف سياسي.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع