بقلم : خالد عكاشة
ما أعلنت عنه وكالة «الأناضول» الخميس الماضى من تقدم شركة البترول التركية (تباو) بطلب إلى حكومة الوفاق الوطنى للحصول على إذن بالتنقيب فى المياه الإقليمية الليبية بشرق المتوسط، يصب الزيت «الحارق» على النيران المشتعلة بالأساس فى تلك المنطقة، ليس بالداخل الليبى المنقسم فحسب، حيث لم تتمكن كافة دعوات التهدئة من العودة به إلى موائد التفاوض التوافقى، بل فى منطقة شرق المتوسط على اتساعها، التى تمور مياهها بالكثير من الاحتقان والخلافات الجذرية، ما بين تركيا وعديد الدول المتشاطئة والمتقاسمة للحدود وحقوق الانتفاع الاقتصادى. اليوم، ووفق ما ذكره «فاتح دونماز»، وزير الطاقة التركى، بأن أعمال الاستكشاف ستبدأ فور الحصول على الإذن من حكومة الوفاق، استناداً إلى الاتفاقية الموقعة فى نوفمبر الماضى بين تركيا وحكومة الوفاق، وهو ما يجر الساحة الليبية لتكون وقوداً لصراع إضافى متوقع ما بين تركيا واليونان وقبرص وآخرين بينهم الاتحاد الأوروبى، يصفون الاتفاقية وإقامة منطقة اقتصادية خالصة، من الساحل التركى الجنوبى على المتوسط إلى سواحل شمال شرق ليبيا، بالمخالفة الصريحة لقانون البحار الدولى.
كالمعتاد يظل الرئيس التركى أردوغان، يقف وراء إشعال هذا الفصل من إجراءات التصعيد، فبمجرد خروج بيان الدول الخمس مصر والإمارات وفرنسا واليونان وقبرص، الذى أدان بشدة التدخل العسكرى التركى فى ليبيا، المتمثل فى إرسال الأسلحة ونقل المقاتلين الأجانب المرتزقة إلى الأراضى الليبية، منتهكاً بذلك القرار الأممى الذى يحظر إمداد الأطراف الليبية بالسلاح، ومهدداً الجوار الإقليمى لليبيا فى الشمال الأفريقى وأيضاً أوروبا. ما إن صدر البيان، سارع أردوغان، بعد ساعات، بعقد اجتماع لحكومته، ليؤكد فيه أن «بلاده ستواصل الدفاع بكل حزم عن حقوقها ومصالحها فى شرق المتوسط وقبرص وبحر إيجة». ويدفع بعد ذلك وزير الطاقة التركى كى يتقدم بهذا الطلب المثير للجدل لصالح شركة (تباو) والذى يراهن على جعله بمثابة فرض لأمر واقع، وترسيخ عملى لنصوص الاتفاقية التى لم يعترف بها فى الداخل الليبى سوى زمرة الموقعين عليها، العاملين لصالح المشروع التركى، ظناً منهم أن هذا مما يمكن فرضه على الأرض ومن ثم تمريره.
على جانب آخر، يجب النظر بصورة متعمقة لما طُرح قبيل أيام معدودة من إعلان المشير خليفة حفتر إسقاط العمل بالاتفاق السياسى «الصخيرات»، وتولى مسئولية إدارة شئون البلاد من طرف واحد، حيث طرح المستشار عقيلة مبادرة سماها «خريطة طريق»، للخروج من المأزق والانسداد الجارى على ساحة العمل العسكرى. مكونات هذه المبادرة ذات أهمية تستلزم الوقوف أمام عناصرها التى تمثلت فى أن يقوم كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة (برقة طرابلس الفزان) باختيار من يمثله بالمجلس الرئاسى لحكومة الوفاق، بالتوافق فيما بينهم أو بطريقة الاختيار السرى تحت إشراف الأمم المتحدة. على أن يقوم المجلس الرئاسى بتسمية رئيس الوزراء ونواب له يمثلون الأقاليم الثلاثة، لتشكيل حكومة يتم عرضها على البرلمان لنيل الثقة، بحيث يكون رئيس الوزراء ونائباه شركاء فى اعتماد قرارات مجلس الوزراء. على أن يتم بعد تشكيل المجلس اختيار لجنة من الخبراء والمثقفين الليبيين لوضع وصياغة دستور للبلاد بالتوافق، يتم بعدها تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، تنبثق عن الدستور المعتمد الذى سيحدد شكل الدولة ونظامها السياسى. ووفق هذه الخارطة وضع المستشار صالح مقترحاً بأن يتولى المجلس الرئاسى الجديد مجتمعاً مهام القائد الأعلى للقوات المسلحة خلال هذه المرحلة، كما سيستمر البرلمان الحالى فى ممارسة دوره كسلطة تشريعية منتخبة، إلى حين انتخاب برلمان جديد.
ربما الجديد والمثير الذى يطرحه رئيس البرلمان فى هذه المبادرة أن أهالى الأقاليم الثلاثة هم من سيختارون ممثليهم فى هذه السلطة، كما سيكون رئيس المجلس الرئاسى من أحد الأقاليم الليبية، بينما يكون رئيس الوزراء من أحد الإقليمين الآخرين. ووضعت المبادرة شرطاً حاكماً بأن لا يحق لرئيس المجلس الرئاسى القادم ونوابه الترشح لرئاسة الدولة فى أول انتخابات رئاسية قادمة. ويدعو المستشار صالح، على هامش تلك الخارطة، إلى عقد اجتماع موسع للمتخصصين القانونيين وأصحاب الرأى والفكر، بالإضافة إلى شريحة واسعة من المثقفين فى ليبيا، لوضع الآلية المناسبة لتحقيق هذه المبادرة، حيث يؤكد أنه من الضرورى مناقشة آلية مدروسة لمعالجة الأمور العالقة فى المستقبل، ليتم حل الخلافات بشكل مدروس على ضوء تجارب الإخفاقات السابقة، التى أوصلت المشهد إلى ما هو عليه الآن.
فى المقابل من هذا الطرح يأتى موقف المشير خليفة حفتر الأخير الذى بدا بعيداً بشكل كبير عن طرح سياسى من هذا النوع أو غيره. رغم أنه يستمد أهم وأقوى مسوغات شرعيته من «البرلمان الليبى» الذى فوّض الجيش الوطنى فى مهام محاربة الإرهاب وميليشيات المرتزقة منذ سنوات، واليوم كما تبدو الصورة رغم نفى صالح على الأقل فالتباعد واضح بصورة كبيرة ما بين قائد الجيش، ليس مع تلك المبادرة وحدها بل مع عقيلة نفسه، فرغم اتفاق الأخير مع المشير حفتر وآخرين حول ضرورة إسقاط اتفاق الصخيرات للخروج من حالة الجمود السياسى فى البلاد، إلا أن أول سؤال طرحته الجبهة المؤيدة للمشير من أعضاء البرلمان وحلفائهم، هل إعلانه الأخير يشمل ضمن كثير مما يشمل إسقاط البرلمان؟
لم تقف التساؤلات فى ليبيا عند هذا الحد، فالأكثر غموضاً وأهمية هو سؤال الجبهة الشرقية التى ظلت لسنوات متماسكة، فهل تلك المبادرة ومن بعدها إعلان المشير هو إيذان بتشرخها على النحو الذى يصعب معه عودتها موحدة القرار والرؤية مرة أخرى. هذا فى الوقت الذى تُحكم فيه تركيا قبضتها على قرار المنطقة الغربية بشكل كامل، وفى ظل سباقها المحموم كى ترسخ مخرجات عملية للاتفاقيات الموقعة مع الغرب. يبقى هذا التقاطع الحاد فى الأحداث غير قابل للترميم بسهولة، لا سيما مع رهان أنقرة بأن يظل التقسيم وحده هو الخيار الأخير فى حال الاستسلام للواقع.