بقلم-خالد عكاشة
قد يكون الأمر جديراً بالاحتفاء، أن تصدر ورقة تحليل سياسات عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تخص أزمة سد النهضة فى ما بين مصر وإثيوبيا. حيث نجدها قد اتسمت بقدر عالٍ من التوازن، وواقعية ما يواجهه كل طرف فيها من تحديات. وقد عنون الباحث «باراك بارفى» ورقته بـ«كسر الجمود فى الخلاف حول السد بين مصر وإثيوبيا»، وهذا ما يمكن اعتباره أولى إشارات الموضوعية، بعد سنوات اعتدنا أن يظلل المعهد الشهير موضوعاته المتنوعة عن مصر، بغيوم الرؤى المشوشة، وزوايا الرصد التى يشوبها التأويل السلبى فى الغالب من القضايا التى تهم مصر، أو يرقبها العالم، وهى تحدث على أرض الأحداث المصرية.
بدأ «بارفى» ورقته بتوصيف الوضع المائى لمصر، حيث وضع مخاوف المصريين الجمة من العواقب التى سيخلفها السد، فى محلها، باعتبار أن التقارير المستند إليها، تجعل اعتماد مصر على نهر النيل يمثل (75%) من احتياجاتها المائية. خاصة أن مصر من المناطق التى يسجل «هطول الأمطار» فيها، المعدل الأدنى الذى يجعل أى انخفاض فى مياه النيل «كارثياً»، لذلك استشهدت الورقة تلخيصاً للوضع بكلمة الرئيس السيسى عام 2017، كمعبر عن سياسته فى هذا الملف «لا يستطيع أحد أن يمس المياه فى مصر، فهى مسألة حياة أو موت». هذا دفع الباحث لأن يضع فى موقع متقدم من ورقته، توصية أولية سيُكرّرها تفصيلاً فى نهايتها بصيغة واضحة، إنه «ينبغى على واشنطن أن تعمل مع كلا البلدين؛ لضمان توصلهما إلى حل عادل لا يزيد من زعزعة استقرار مصر».
العوامل السياسية والاقتصادية، التى أدت إلى انطلاق المشروع قبل وصوله إلى محطته الراهنة، جاءت تحت عنوان «من الطموح إلى الجمود»، لخصت فيه الورقة الأحداث، بأن إثيوبيا وضعت حجر الأساس للسد أبريل 2011، ولضمان عدم تمكن الأطراف المانحة الخارجية والمنظمات الدولية من تأخيره، تولت الحكومة بنفسها تمويل المشروع البالغة كلفته (4 مليارات) دولار، وجمعت التبرعات من المصارف المحلية، وخصمت المال من رواتب موظفى القطاع العام لشراء السندات. مستهدفة فى ذلك؛ أنه بعد انتهاء المشروع، سيؤمن السد سابع أكبر مخزون من مياه السدود فى العالم (74 مليار متر مكعب)، أى أكثر من ضعف كمية المياه التى يوفّرها سد هوفر الأمريكى. وسيولد ما يقرب من (6000 ميجاواط)، حيث تعتزم إثيوبيا استخدام السد لتوليد الكهرباء عوضاً عن الرى، وبيع الطاقة للدول المجاورة بسعر أدنى من سعر السوق. وبتوازن بحثى؛ يرى أن عظم هذا المشروع الإثيوبى له أثر جانبى فادح. لأنه بالتبعية سيؤدى السد إلى انخفاض كمية المياه المتوافرة فى مصر، خلال عملية تعبئة خزان المياه التى ستستغرق عدة سنوات، مما يؤثر بشكل كبير على قطاع الزراعة المصرى. على سبيل المثال، قدر نقصان كمية المياه المحلية بمقدار «1 مليار» متر مكعب فقط، سيتسبب بخسارة 200 ألف مصرى وظيفتهم.
انتقل الباحث «باراك بارفى» بعدها؛ لرصد التحديات الاقتصادية التى تواجهها إثيوبيا. حيث بدأ بتأكيد ما وصفته إثيوبيا بأنها تجربة أفريقية ناجحة، لما شهدته فى عدة سنوات من النمو تجاوز الـ(10%)، مع ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل ساحق، من (365 مليون) دولار خلال 2006 إلى (4.2 مليار) دولار بحلول نهاية عام 2018. لكنه فى المقابل يسجل ارتفاع الدين العام أيضاً من (10.5 مليار) دولار عام 2012 إلى (26.2 مليار) دولار فى 2018. كما تراجع احتياطى البنك المركزى من العملات الأجنبية، من (3.2 مليار) دولار فى 2016 إلى (2.8 مليار) دولار يونيو الماضى. وهذا المعدل هو الأدنى منذ عام 2013، ففى ديسمبر 2017 كانت الاحتياطيات بالكاد تغطى الواردات لشهرين فقط، وهو الحد الأدنى الموصى به من قبل «صندوق النقد الدولى». فى الوقت نفسه، شكل العجز فى الميزانية نسبة 3.3% من «الناتج المحلى الإجمالى» فى عام 2017. وهى النسبة الأعلى منذ 2006، وقامت إثيوبيا بتمويلها بديون إضافية.
العجز فى العملات الأجنبية؛ أدى إلى ظهور تحديات اقتصادية لا تستطيع إثيوبيا معالجتها بمفردها. لذا فقد التمست المساعدة من جهات راعية خارجية، لا سيما بكين. ففى 2016 كانت الصين أكبر مشترٍ للسلع الإثيوبية (12.5%)، كما كانت بكين أيضاً المستثمر الأجنبى الأكبر فيها، أى ما يشكل نحو (25%) من مشاريع الاستثمار المباشر فى إثيوبيا، البالغ عددها (5217) مشروعاً. ومع ذلك، فإن الصين هى الدائن الأكبر لإثيوبيا، إذ أقرضتها (4.6 مليار) دولار، أى ما يعادل (29.5%) من إجمالى قروض إثيوبيا. وشمل ذلك مبلغ (1.2 مليار) دولار لتمويل خط نقل التيار الكهربائى للسد.
أهم ما جاء بتحليل «معهد واشنطن»؛ هو ما رصده كأسباب لـ«إبطاء وتيرة بناء السد». فقد ذكر أن الانخفاض فى احتياطى العملة الأجنبية، أدى إلى إرهاق مشروع السد، وحال دون تمكن إثيوبيا من الدفع للموردين. ونتيجة لذلك يسود الاعتقاد، بأن شركة «سالينى إمبريجيلو» الإيطالية المكلفة بالبناء قد أبطأت وتيرة أعمال البناء. وتضرّر المشروع أيضاً بفعل مشاكل غير اقتصادية، كان يمكن تجنّبها. فقد خصّصت إثيوبيا حصة كبيرة من المشروع، للشركات المحلية، منها «شركة المعادن والهندسة»، التى تبين أنها تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة لإنجاز المهمة المسندة إليها. حيث لم تتمكن حتى من تركيب (توربين واحد) من توربينات السد (الستة عشر)، الأمر الذى يؤخر الأعمال الكهروميكانيكية لشركة «سالينى». فالمقرر كان إنهاء العمل فى مايو 2017، لكن النسبة المنجزة منه حتى الآن لا تتعدى الـ(65%)، هذه النسبة أيضاً وصفها «وليام ديفيدسون» فى مقالة لصحيفة «إثيوبيا إنسايت» بـ«المضللة»، لأن معظم المهام المنجزة تندرج ضمن مرحلة الحفر السهلة نسبياً، فى حين أن الأعمال الأكثر تعقيداً من تركيب التوربينات وأشغال محطة الطاقة لم تنفذ بعد.
هناك جزء شديد الأهمية والدقة، تناولته الورقة الأمريكية، فضلاً عن توصياتها لصانع القرار الأمريكى فى التعامل مع الأزمة.. نستكمله الأسبوع القادم إن شاء الله.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع