بقلم - خالد عكاشة
وصفنا فى الحلقة السابقة، الورقة التحليلية الصادرة عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، التى تناولت المحطة الراهنة لأزمة سد النهضة، بأنها تتميز بقدر معقول من التوازن، باعتبارها المرة الأولى منذ سنوات التى نجد فيها المجتمع البحثى الأمريكى قادراً على صياغة سردية تميل إلى الموضوعية ومهنية الطرح، التى غابت عن هذا المجتمع لسنوات، ظل خلالها يدعى امتلاك الحقيقة المطلقة حول مختلف الملفات، أو هكذا يتصور غالبية المنخرطين فى هذا المجال الأمريكى المؤثر والمهم، لذلك يظل ما طرحه «باراك بارفى»، فى ورقته التحليلية «كسر الجمود فى الخلاف حول السد بين مصر وإثيوبيا»، تغريداً موضوعياً خارج السرب التقليدى.
تناولت ورقة تحليل السياسات توصيفاً موجزاً لأوضاع مصر السياسية التى على أرضيتها بدأت تتفاعل مع أزمة سد النهضة، فجاء فيها أنه بعد سيطرة الجيش على الحكم عام 2013، وحول هذا التعبير قد نختلف جذرياً مع الباحث، ولكننا يمكن تفهم تأثره بالطنين الذى يسود المجتمع البحثى المشار إليه، ورغبته فى عدم إثارة الضجيج حوله فى حال توصيف هذا التاريخ بالثورة، حيث ينظر عادة لمن يخرق تلك القواعد باعتباره مخالفاً للقواعد المنهجية السائدة هناك. فى كل الأحوال أرى أن الباحث تصرف بذكاء، فهذه النقطة ليست قضيته التى يتناولها، لذلك أورد هذه الصيغة كمقدمة للفقرة، التى سرعان ما انتقل منها إلى ما يهمه الإشارة إليه. حيث تلا ذلك مباشرة، نصاً: «سرعان ما تمكن السيسى من إرساء الاستقرار فى البلاد، ووضع استراتيجية متماسكة للتفاوض بشأن السد، ومع ذلك، لم تحرز المحادثات التى دامت خمس سنوات سوى تقدم ضئيل، إن لم يكن منعدماً، فى معالجة المشاكل الرئيسية، بينما اقتصر عمل المسئولين على مناقشات غير مثمرة، حول دراسات فنية لا معنى لها أجرتها شركات استشارية أوروبية».
على جانب مقابل ذهب «باراك بارفى»، لتفكيك المشهد السياسى الإثيوبى فيما بعد وصول رئيس الوزراء الجديد «آبى أحمد» إلى الحكم، حيث أراد الباحث لفت الانتباه إلى أن أول ما تبناه بعد شهور من توليه السلطة أنه سعى إلى تخفيف التوقعات بشأن السد، مستنداً فى ذلك إلى أن تقديرات «آبى أحمد» بامتداد العمل إلى عشر سنوات، كانت تلمح إلى إكمال السد نفسه (من المتوقع أن يستغرق ذلك ثلاث سنوات أخرى)، فضلاً عن تعبئة الخزان ككل والذى ربما قد يلزمه سبع سنوات إضافية، وجاء تحليل كلمته بأنها ألقت الضوء أيضاً على الأولويات الجديدة لدى الحكومة، فالسد الذى كان سابقاً موضع فخر وطنى، ورمزاً للاكتفاء الذاتى والمكانة الإقليمية الهامة، وضع اليوم جانباً، حيث يركز «آبى أحمد» على عملية السلام مع إريتريا، وعلى الإصلاحات الداخلية، ووصفت الورقة الأمريكية سياساته الحرة بأنها تشكل تهديداً للمصالح الراسخة لدى «جبهة تحرير شعب تيجريان»، التى هيمنت لفترة طويلة على تلك الدولة الاستبدادية، بل ذهب التحليل لأبعد من ذلك، عندما ذكر أنه ربما «الجبهة» تكون متورطة أيضاً، فى محاولة الاغتيال الفاشلة التى تعرض لها «آبى أحمد» فى 23 يونيو الماضى.
بعد أن استعرضت الورقة التحليلية الأرضية السياسية الراهنة لكلتا الدولتين مصر وإثيوبيا، أوردت تحت عنوان هام «مساعدة مصر على حل النزاع»، مجموعة من التوصيات الموجهة للعديد من أطراف «أزمة» السد، بدأت بمصر التى رأت أنه بإمكانها استغلال التغير فى أولويات «آبى أحمد» والاضطرابات المحيطة بموت «سيمغنيو بيكيلى» مدير المشروع، كفرصة لوضع استراتيجية جديدة بشأن المياه. تتمثل الخطوة الأولى الجيدة فى توثيق كمية المياه المحددة التى تحتاج البلاد إلى سحبها من النيل فعلاً، فقد أفاد «الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء» التابع للحكومة، بأن مصر استهلكت (76.3 مليار) متر مكعب من المياه، خلال السنة المالية 2015/2016، وهذا الرقم يشمل الموارد من غير النيل، وبموجب الاتفاقية المبرمة عام 1959 مع السودان، رصدت لمصر (55 مليار) متر مكعب سنوياً من النهر، وأمام ما سيتعرض له منسوب النيل من انخفاض حاد خلال فترة تعبئة خزان المياه، تثنى الورقة على جهود القاهرة المعلنة بأنها تنوى زيادة معدل تحلية المياه بخمسة أضعاف على مدى الثلاثة أعوام المقبلة، وبعض من التدابير الأخرى، لكنها تقدر بأنها لن توفر سوى (5 إلى 7 مليارات) متر مكعب من المياه سنوياً، وهذه كمية لا تكفى للتعويض عن الخسارة التى ستلحق بالبلاد خلال فترة ملء الخزان.
تختتم الورقة توصياتها بما هو موجه إلى واشنطن، فهى تشير عليها باستثمار العلاقة الجيدة التى تربط مصر بإثيوبيا الآن، من خلال بذل الجهد فى حل إشكالية «فترة تعبئة الخزان»، حيث يرى الباحث أنها ما زالت النقطة العالقة ما بين البلدين، فمصر تود إطالة أمدها قدر الإمكان، للتقليل من الانخفاض السنوى فى مردود المياه من نهر النيل، حيث تطالب بفترة تتراوح بين سبعة وعشرة أعوام، علماً بأن الخطة التنفيذية لـ«سيمغنيو بيكيلى» قبل وفاته، كانت تستهدف إتمامها خلال خمسة أعوام بحد أقصى.
وبحسب ما أورده «باراك بارفى»، فهو يدعو واشنطن للخروج من هذا الجمود بأن تحث الطرفين على القبول بفترة سبع سنوات لـ«ملء الخزان»، فتوازن بذلك بين حاجة إثيوبيا إلى تحقيق عائدات سريعة على استثمارها، وبين الأضرار التى قد يسببها جدول زمنى معجل لمصر، كما يمكن للمسئولين الأمريكيين المساعدة فى إعداد حزمة مساعدات دولية، للمحاصيل التى تعتمد على المياه بشكل كبير، ما يتيح لمصر الحفاظ على مواردها القيمة، بالنظر إلى السد باعتباره مشروعاً جديراً بالاهتمام، حيث سيوفر الكهرباء بكلفة أقل لبعض من أكثر دول العالم فقراً، لكن يجب ألا تأتى مكاسب هذه الدول على حساب المزارعين المصريين، وعلى استقرار أكثر الدولة العربية ازدحاماً بالسكان.