بقلم - خالد عكاشة
الإعلانات الرسمية الألمانية التى كشف عنها المستشار «أولاف شولتز» فى الأيام الأولى من عمر الأزمة الروسية الأوكرانية، تمثل لا شك أبرز المتغيرات الاستراتيجية التى تنقل ألمانيا إلى وضعية جديدة غير مسبوقة، منذ إعادة توحيد ألمانيا وقبلها من تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945. الخطوات التى تمكن المستشار الجديد من تأمين التأييد لها، من أعضاء حكومته ومن الأغلبية فى البوندستاج الألمانى، لها علاقة بالخطط العسكرية المستقبلية للدولة الألمانية، بدأت بالكشف عن أن الحكومة الحالية قررت أن تستثمر 100 مليار يورو فى مجال التصنيع والتسلح خلال فترة ثلاث سنوات، ويبدو أن هذا المستقبل قد بدأ بالفعل، على خلفية الحرب الروسية التى لم تكن لتنتظر أحداً.
مؤخراً أكد المستشار شولتز عشية انعقاد قمة «حلف شمال الأطلسى» التى جرت فى مدريد، أن بلاده ستمتلك أكبر «جيش تقليدى» أوروبى فى حلف الناتو، بفضل الأموال الضخمة التى قررت برلين استثمارها فوراً لتعزيز قدراتها العسكرية. الثابت أن برلين تعاملت خلال قمة مجموعة السبع التى سبقت اجتماعات الحلف، باعتبارها اليوم إلى جانب الولايات المتحدة أكبر مساهم فى حلف الناتو، وأنها من خلال خطتها الجديدة فى بناء جيش وصفته أكثر من مرة بـ«الأكبر»، ستعزز قدرات حلف شمال الأطلسى بأسره. للمرة الأولى ربما تتخلى ألمانيا عن تحفظها الموروث فى الحديث عن القدرات العسكرية، وحجم وآليات الإنفاق وخططه الحكومية التى ظلت لسنوات فى مساحة من الظلال، كانت برلين ترى على غموضها النسبى أنها تحقق لها مبتغاها الاستراتيجى داخل المكون الأوروأطلسى.
فالتاريخ الحديث الذى يسجل لألمانيا أنها منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة قامت بتقليص حجم جيشها الذى كان يقدر بنحو نصف مليون عسكرى إبان إعادة توحيدها، إلى ما لم يتجاوز 200 ألف عسكرى طوال تلك العقود حتى اليوم. تذهب الآن وبشكل معلن إلى إنشاء «صندوق استثمار» استثنائى، للإنفاق على خطة التحديث العسكرى بميزانية تتراوح بين 70 و80 مليار يورو سنوياً، مع التأكيد أنها تستهدف تنمية قدرات الدفاع وتسجل لنفسها أنها ستكون الدولة الأكثر استثماراً فى هذا المجال. وهى بذلك تعبُر على الخلاف التاريخى الذى كان سائداً لسنوات بين الأعضاء، حول تخصيص 2% على الأقل من إجمالى ناتجها المحلى لموازنتها الدفاعية، وبقى هذا الهدف نادراً ما التزم به العديد من الأعضاء، ليظل مبعث إشكاليات عديدة بين أعضائه، خاصة بين المكون الأوروبى للحلف من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر. اليوم ألمانيا تخطو خطوة هائلة؛ عبر عنها مستشارها الجديد كون بلاده التى تمتلك أكبر اقتصاد فى القارة الأوروبية، تهدف من وراء هذه الاستثمارات الضخمة ليس إلى ضمان الدفاع عن أراضيها فحسب، بل والوفاء أيضاً بالتزاماتها تجاه حلف الأطلسى.
استقبل «ينس ستولتنبرج» الأمين العام لحلف الناتو هذه الخطوة بقدر من الارتياح، واعتبرها أكبر خطوة إصلاح شامل لقدرات الردع وللدفاع الجماعى منذ الحرب الباردة، حيث يبدو من الخطط المطروحة على طاولة القادة وجرى التوافق على أغلبها، مع دخول برلين القوى على هذا النحو، أن تقديرات الأمين العام لا تحمل مبالغة. فهناك مبدئياً اتفاق على رفع حجم «قوات الرد السريع» من 40 ألفاً إلى 300 ألف عسكرى، تتجهز لدفعها كقوات متعددة الجنسيات إلى دول أوروبا الشرقية من أعضاء الحلف، وسيصحبها نشر مزيد من الأسلحة الثقيلة من الجيل الأحدث، هذا غير ما اتفق وتعهد القادة بنقله إلى داخل أوكرانيا بصورة عاجلة. ومما تكشف فى أروقة اجتماعات الحلف الأخيرة أن إرادة أطلسية جماعية صارمة باتت تتمسك بالاستمرار فى عملية تزويد أوكرانيا بالسلاح النوعى، طالما أفصح مسار القتال على محاور جبهات المواجهة مع الجيش الروسى، إلى احتياجه للدعم أو الإحلال وفق مقتضيات سير المعارك المختلفة.
ألمانيا تبدو من خلال خططها الاستراتيجية الدفاعية الجديدة، متجاوزة حتى للحرب الروسية الأوكرانية إلى فضاء جديد تماماً له ارتباط أكبر بمعادلات القدرة الذاتية، وبما تراه يحقق لها النقلة التى تسعى إليها مع الشركاء الأهم لها فى الحلف، والتى تمثل فيه الولايات المتحدة بالطبع المرتبة الأولى بالنسبة لبرلين. هذا على الأقل ما بدا مؤخراً فيما نشره موقع «دويتش فيله» الألمانى، الذى يخص القدرات الجوية الألمانية كنموذج لما يفكر فيه المخطط الاستراتيجى فى برلين، فمنذ أربعين عاماً يستخدم الجيش الألمانى المقاتلة «تورنادو»، وهى مقاتلة متعددة المهام وجاهزة لاستخدامات متخصصة فى الوقت نفسه، هذه المقاتلات لديها القدرة على رصد وحدات الرادار المعادية، كما أنها تساعد القوات بفضل قدرتها على حمل الأسلحة النووية الأمريكية المخزنة فى ألمانيا. الجانب الألمانى يدفع إلى تفكير جديد خاصة أن أجل استعمال هذه الطائرات سينتهى على أقصى تقدير عام 2030، المطروح من الشركاء بالقارة إيجاد بديل أوروبى مثل المقاتلة «يوروفايتر» التى يمكن استبدال التورنادو ببعض منها اعتباراً من 2025، خاصة أن المقاتلة «يوروفايتر» تعمل ضمن أسطول السلاح الجوى الألمانى بالفعل.
لكن وزيرة الدفاع «أنجريت كرامب» لا تريد الاستغناء عن التكنولوجيا الأمريكية، فهى ترى أن الخيار الأوروبى وحده ليس كافياً من وجهة نظرها، ففى الوقت الذى تسعى فيه حالياً لاستبدال مقاتلات «تورنادو» بـ«93 مقاتلة» من طراز «يوروفايتر»، تريد أيضاً شراء «45 مقاتلة» من طراز (F18) الأمريكية من إنتاج شركة بوينج، بعدما أثيرت من جديد مسألة التسلح النووى. فوزارة الدفاع الألمانية ترى أن حصول المقاتلة الأمريكية على الاعتمادات الرسمية المطلوبة من الهيئات الأمريكية سيكون أسرع بكثير من يوروفايتر، خاصة أن شركة إيرباص المنتجة ليوروفايتر على قناعة بأنها لن تحصل على شهادة الاعتماد الخاصة بالقدرة على حمل أسلحة نووية إلا بحلول عام 2030، ويبدو أن هذا التاريخ البعيد نسبياً لا يفى بطموح الخطط الألمانية. هذا على أهميته وإن ظل نموذجاً للقدرات الجوية وحدها، إلا أنه يعد كاشفاً عن حجم التغير الاستراتيجى الكبير الذى تنتهجه ألمانيا الآن، ونظرتها إلى عامل الزمن فى حساباتها الدقيقة.