بقلم - خالد عكاشة
نشرت الـ«نيويورك تايمز» تقريراً بتوقيع المراسل المعتمد لدى الصحيفة الأمريكية الشهيرة «ديفيد كيركباتريك»، باعتباره متخصصاً فى الشأن المصرى وبعض من ملفات الشرق الأوسط. التقرير يتحدث عن مشاركة الجيش الإسرائيلى للجيش المصرى فى الحرب على الإرهاب بشمال سيناء. ويحدد التقرير هذه المشاركة بأنها تجاوزت الـ«100 غارة جوية»، ويشير إلى أن هذا الأمر يجرى منذ سنوات، مع التأكيد على أن مصر وإسرائيل حرصتا طوال هذه المدة على إبقاء هذه الشراكة فى إطار كامل من السرية.
التقرير الصحفى لم يذكر وقائع بعينها، على اعتبار أن 100 غارة جوية وخمس سنوات، عجز عمله الصحفى خلالها عن الإمساك وتوثيق واقعة واحدة، تضفى على التقرير قدراً من المهنية أو الجدية. لذلك التفّ على الواقع بالعديد من المبررات والذرائع ليضمن تمرير عنوانه، وهو المستهدَف، أن هناك تحالفاً سرياً بين إسرائيل والقاهرة. ولهذا يبدو التساؤل منطقياً: لماذا تنشر صحيفة النيويورك تايمز «كذبة كبيرة» بحق الجيش المصرى قبل أن تمثل إساءة افتراضية للنظام السياسى الحالى؟
الكثيرون من المتابعين الجادين لملف النشاط الإرهابى المسلح فى سيناء لديهم العديد من الكتابات البحثية التى واكبت هذا النشاط منذ لحظة انطلاقه الأولى، يمكنها أن تثبت بسهولة «كذب» التقرير المشار إليه، حيث ظلت عن كثب تتابع العمليات، وترصد محطات صعودها وانحسارها. اشتملت تلك المدونات المتخصصة كافة وجهات نظر محرريها، وفنّدت الظاهرة على معظم أوجه تناولها، حتى اشتمل البعض منها على توجيه انتقاد واسع لأساليب مواجهة الجيش المصرى للتنظيمات الإرهابية. وهذا منطقى مع ظاهرة معقدة كتلك المطروحة للعمل البحثى والتقييم، فاختلاف وجهات النظر فى الإحالات والتأويل وارد جداً، بل ومطلوب أيضاً، لإثبات جدية وجدارة تلك المتابعة التى طرقت كافة التفسيرات.
أزعم أننى طالعت مدققاً الغالبية العظمى مما كُتب عن النشاط الإرهابى فى سيناء، على الأقل كى أكون جديراً بالتخصص فى هذا الملف، فلدىّ كتابات بالعشرات فيما سبق الإشارة إليه. وعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية، صدر لى كتابان عن سيناء والنشاط الإرهابى فيها، استلزما الاستعانة بمصادر معتبرة، ليخرجا بما يليق بهما.
بارتياح وثقة فيما أطرحه، أجزم بأن ما جاء فى تقرير النيويورك تايمز عارٍ تماماً عن الصحة، وأنه تعمد تحرير أكذوبة كاملة لأهداف تخص الجريدة ومحرر التقرير. وهنا لا أستند فقط إلى يقينى البحثى، بل هذا لم يرد بالمطلق فى أى من آراء الباحثين والكتّاب ذوى الشأن. والأمر ينسحب على كافة المراكز البحثية المتخصصة فى شأن التنظيمات الإرهابية فى مصر وعلى المستوى الدولى، فحديث الشراكة أو التحالف السرى مع إسرائيل، والفترة الزمنية التى شهدت الكثير من التقلبات لا يمكن بحال تصور إغفالها أو العبور عليها فى عشرات الآلاف من السطور المصرية والعربية والدولية التى تحدثت عن ما يجرى فى سيناء.
أمام هذا كله، يخرج «ديفيد كيركباتريك» ليحدثنا عن مسئولين رفضوا ذكر أسمائهم، ومعلومات تعرفها كافة الأوساط الأمريكية، لكنها ترفض الحديث العلنى بشأنها، وسبعة من الجنرالات البريطانيين والأمريكيين الذين يشترطون عدم كشف هويتهم قبل أن يؤكدوا وقوع الهجمات الإسرائيلية داخل مصر، فضلاً عن رقابة عسكرية إسرائيلية تمنع النشر أو الحديث عن الغارات الجوية التى تنفذها فى مصر، بل وتمنع الإجابة عن تساؤلات من نوع: هل القوات الإسرائيلية تنفذ العمليات من إسرائيل، أم أنها موجودة بالأساس على الأراضى المصرية؟ بالإشارة إلى أن تلك القوات تقوم بـ«تغطية أعلامها» حتى لا ينكشف أمرها.
المثير، أو بالأدق البائس، أن كل هؤلاء المتواطئين، والقادرين على إخفاء هذا السر المذهل لسنوات خمس، قاموا بذلك خشية «ردة فعل عنيفة» داخل مصر، بحسب تبرير الصحيفة والمحرر، كما ذكرت أنهم يقدمونها جميعهم كخدمة للرئيس عبدالفتاح السيسى بشخصه، خاصة أنه نجح فى إخفاء هذا الأمر عن جميع الدوائر العسكرية والأمنية التى تعمل على مكافحة الإرهاب فى سيناء، واختص دائرة محدودة غير معلومة بالطبع من الضباط العسكريين والاستخباراتيين الذين يعلمون ويسهلون هذا الأمر!
وضع «ديفيد كيركباتريك» فى نهاية تقريره المزيد من «الهراء» حول جلسات مغلقة سرية تمت فى الكونجرس بين أعضائه وبين رجال استخبارات أمريكيين تدور حول تأكيد هذا العمل العسكرى التعاونى الإسرائيلى، بالرغم من عدم الاستفادة منه على صعيد الدور المصرى فى القضية الفلسطينية. ورغم وصولهم لهذه النتيجة، فإنهم ظلوا حريصين فى الوقت ذاته على إبقاء الأمر سرياً، وعدم استثماره فى المحادثات مع المصريين، ليقتصر على حث الإسرائيليين سراً أيضاً بضرورة مطالبتهم للمصريين بالتوقف عن إدانة إسرائيل فى وسائل الإعلام التى تسيطر عليها الدولة، وفى المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة.
هل يمكن بأى عقل قبول مثل تلك التلفيقات، أو تصديق هذا الخيال الردىء عن تفاصيل العمل العسكرى والاستخباراتى والدبلوماسى بين الأطراف التى ذكرتها «النيويورك تايمز»؟. بل كيف يمكن تمرير هذا الكم من الخزعبلات التى تدّعى حدوث كل تلك التفاصيل، وخنوع الجميع تحت سطوة «رد الفعل العنيف» المصرى فى حال علمه بتلك الأسرار؟! «ديفيد كيركباتريك»، ببراعة صحفية متوهمه، لم يستهدف المصداقية، فلها معطيات مغايرة تماماً. فالتقرير المجهَّل فى كل مصادره استثمر فقط اسم الجريدة الشهير لصناعة عنوان مثير يقفز به على الثابت من أن الجيش المصرى لم ينخرط فى تحالفات دولية للحرب على الإرهاب، ورفض شراكات عُرضت عليه من الولايات المتحدة وروسيا للعمل معه على أراضى سيناء لمكافحة الإرهاب. ونشر عن ذلك فى حينه من أصحاب تلك العروض، وورد فيها الكثير مما تجاوزته «النيويورك تايمز» وهى تهدى من يستهدفون سمعة الجيش المصرى «أكذوبة كبرى» يمكنهم استخدامها، بالأخص الآن.
فالتوقيت أهم من المحتوى الذى ينسفه وقوف المقاتل المصرى وحده، بسلاحه الوطنى وبفاتورة الدماء الشريفة، فى ميدان المجابهة والقتال.
نقلا عن الوطن القاهرية