جرى الإعلان عن الوصول إلى مكان العراقى إبراهيم عواد البدرى، المكنى بـ«أبوبكر البغدادى» 48 عاماً، زعيم وقائد تنظيم «داعش»، القيادى المخضرم فى العمل الإرهابى المسلح. حيث تقلب منذ ما قبل العام 2003 وما بعدها فى صفوف ومن ثم قيادات التنظيمات الإرهابية، قبل صعوده الصاروخى عام 2012 لتبوؤ منصب القيادة للتنظيم الذى انسلخ من انتمائه القاعدى، بعد أن سيطر على مساحات هائلة من الأراضى السورية.
أتبعها فى العام 2014 بتحطيم الحدود السورية العراقية، ليضم لسيطرة التنظيم ثلاث محافظات عراقية فضلاً عن مثلها على الأراضى السورية، وليعلن مدينة «الرقة» عاصمة لدولته.
أطلق عليها «الدولة الإسلامية» وهى التسمية التى لصقها بالتنظيم، كإجراء «شكلى» حرص على العديد من صوره لخلق التمايز عن تنظيم «القاعدة».
منذ هذا التاريخ وتلك الأحداث الصاخبة، التى جرى جزؤها الأهم على الأراضى السورية، وبعضها المؤثر أيضاً داخل العراق، وهناك مطاردة «افتراضية» من قبل أجهزة استخبارات دول التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة، للوصول إلى قائد هذا التنظيم الذى احتل صدارة الأحداث خلال السنوات الخمس الماضية على الأقل.
وعبر عمل استخباراتى فائق الدقة أعلنت واشنطن نجاحها فى الوصول إلى الهدف، لتسبق هنا محوراً مضاداً، ظل يشاركها ذات الرغبة فى الوصول إلى عنق «البغدادى».
هذا المحور يضم النظام السورى وإيران وروسيا، حيث يتشاركون مع التحالف فى إعلان انخراطهم الخاص بهم فى الحرب على «داعش».
وقد خرج بعد ساعات من الإعلان الأمريكى وقبيل تأكيد شخصية «الجثة» التى حملتها المروحيات الأمريكية، بعض من الإشارات تفيد بتقديم كل من المخابرات العراقية، والأجهزة الأمنية لقوات سوريا الديمقراطية «قسد» الكردية، جهوداً مؤثرة ومعلومات مساعدة للجانب الأمريكى، كى يصل إلى محطة النهاية الناجحة.
هذا النوع من العمليات الاستخبارية، يحتاج على الأراضى السورية وفى غيرها من الساحات، جهداً معلوماتياً وتحركات تكتيكية معقدة تجرى فى الدوائر المحيطة بالهدف الثمين.
وتبدو المساهمة العراقية التى أعلنت منذ اللحظة الأولى، بل جرى تداول أخبار لخطابات شكر متبادلة بين بغداد وواشنطن، تنحصر فيما تمكنت مخابرات الأولى من استخلاصه أثناء التحقيق مع «محمد على ساجت»، المكنى بـ«أبوعثمان»، باعتباره «عديل» البغدادى ولديه بعض من المعلومات المؤثرة عن التنظيم فى الوقت الراهن. صلة القرابة تلك، وإفصاح «ساجت» الموجود تحت أيدى الاستخبارات العراقية منذ شهرين، عن المكان الذى جرى فيه تسجيل المقطع الأخير للبغدادى، يضع مساهمته بالمعلومات فى دائرة أولية تدور حول «كيف يفكر البغدادى نفسه فى هذه المرحلة، وإلى أين يمكن أن تتجه خطواته القادمة؟».
المؤكد أنها لا تتجاوز ذلك إلى معلومات تخص التنظيم ذاته، لذلك يبقى المرجح أن الاستفادة الأمريكية اقتصرت مع الجانب العراقى، على خطوط التحرك الزمنى للبغدادى وبعض من المسارات المكانية المرجحة، وهى معلومات مفتاحية بالطبع لكنها تظل بعيدة عن مسألة تحديد الموقع الذى جرت فيه العملية الأمريكية.
بالانتقال إلى الإسهام الكردى، وهو استخبارات «قسد» المشغولة منذ شهور فى ترتيب أوضاع قواتها، ونقل مواطنيها وعتادها العسكرى فى مناطق الشمال السورى، تحت وطأة عملية «نبع السلام» التركية، فضلاً عن التعاطى مع المتغيرات الكبيرة التى جرت فى التحالفات، وتأمين المدن والقرى الكردية والوديعة «الداعشية» التى بحوزة قواتها، وقد جرى ذلك فى لقاءات مكوكية عديدة ما بين القيادات الكردية والقوات الأمريكية الموجودة، وأيضاً مع الجانب الروسى وقوات النظام التى دخلت على خط الأحداث.
وكلا الطرفين كان فى موقع الحصول من الأكراد على أثمان وتنازلات، فيما يخص مجمل المشهد بشرق الفرات، بل كان ذلك كله يجرى تحت القصف والتوغل التركى الذى لم يفلت يوماً واحداً من يده، دون أن يصوغ له وقائع على الأرض. لذلك قد يبقى للإسهام الكردى فى عملية البغدادى بعض من جهود المسح المعلوماتى لمربعات ومناطق «مرشحة استخبارياً من الجانب الأمريكى، تكلف للقيام بها بعض العناصر الكردية «محدودة العدد»، يمكن فى حال التقاط معلومة من هنا أو هناك أن تكمل الصورة لدى الاستخبارات الأمريكية، أو فى أقصى تقدير أن تختصر أمامها مسافات العمل الميدانى، كى تحصره فى نطاقات لا تملك الإمكانات الكردية الحالية العمل عليها، أو الوصول إلى تأكيد ما عن وجود البغدادى فى هذا المكان.
أيضاً بالنظر إلى عمل استخباراتى بوزن تسليم «البغدادى»، من المعلوم فى إطاره أن يكون لمن يساهم بفاعلية مؤثرة فى إنفاذه، القدرة على طلب «ثمن» باهظ من أجل تمامه وتنفيذه. وهنا بالنظر إلى كلتا الساحتين؛ فى العراق ولدى الأكراد لم يَبْدُ للعيان ثمة مقابل أمريكى لن يكون خفياً بأى حال، وليس هناك سبيل لإخفائه فكلا الساحتين مأزومتان بالقدر الذى كان منطقياً أن تحصلا من الجانب الأمريكى على ما يتجاوز بكثير رسائل الشكر المتبادلة، بل هناك طلبات محددة بعينها لكلا الساحتين من الجعبة الأمريكية، ليس هناك إفصاح حتى الآن على الأقل عن إنفاذها أو بحثها.
فى وقت كانت فيه ظلال المشكلات وتقاطع وجهات النظر، ما بين العراق الرسمية والولايات المتحدة حاضرة بأكثر مما يدل على انخراطهما معاً فى عمل استخباراتى مشترك، الذى كان آخره تململاً عراقياً معلناً، بسبب تحرك القوات الأمريكية من سوريا إلى العراق عبر مناطق حدودية، دون إخطار الجانب العراقى وهو ما استدعى غضب بغداد، أتبعه توضيح أعلنته القوات الأمريكية مؤخراً بهذا الشأن.
يبقى فى النهاية؛ الموقع الذى وصلت إليه القوات الأمريكية، «قرية بريشا» التى تبعد عن الحدود التركية مسافة 5 كم فى أقصى الشمال الغربى لسوريا، حيث وُجِد فيها «أبوبكر البغدادى» وأسرته كاملة.
وهى جغرافيا تفصح عن الكثير من الدلالات خاصة ونحن نتماس على الأرض، مع مناطق يتقاسم السيطرة والنفوذ فيها تنظيما «حراس الدين» و«أحرار الشام»، وكلاهما على درجة ارتباط وثيق بالاستخبارات التركية.
عن قصة التنظيمين ومعادلة المكاسب وآليات عقد الصفقات، سيدور حديثنا الأسبوع القادم بمشيئة الله.