بقلم - خالد عكاشة
رغم أن العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وافتتاحه باغتيال أحد قادة الفصائل، يمثل نسخة مكررة من عدة جولات مشابهة، وجميعها حاضرة بالأطراف نفسها تقريباً، فإن لهذه الجولة مجموعة من السمات المميزة تكشفت بعد مرور أيام من اندلاعها، وبعض الشواهد تميزها قليلاً عن غيرها من الجولات السابقة، جزء منها جرى عشية تلك الجولة التصعيدية، والغالب فيها ثار على هيئة أسئلة وألغاز اختصت بالحالة الراهنة للمشهد العام بالداخل الفلسطينى، ومساحات التقاطع بينه وبين الوضع السياسى فى إسرائيل، فضلاً عن مواقع الأطراف الفاعلة على خريطة صراع المحاور الإقليمية الذى لم يهدأ منذ سنوات.
حركة «حماس» الغائب الحاضر فى تلك الجولة؛ يعد موقفها هذه المرة الأكثر التباساً من أى طرف آخر، فهى ليست فى صدارة المشهد كما اعتادت، بل وينظر إليها فى الداخل الفلسطينى بأنها تخلّت طواعية عن مقعد القيادة مؤقتاً لحسابات تخصّها، الجديد هذه المرة أن أغلب تلك الحسابات لا علاقة بالقضية فى جانبها المقاوم. قبل شهور فتحت قيادات حماس مع إيران خطوط اتصال، وزار الكثير من قيادات الحركة طهران فى رحلات متتابعة، سبقتها حملة إشادات بالدور الإيرانى فى دعم المقاومة خلال العملية العسكرية مايو 2021. على لسان قائدها يحيى السنوار، كان هناك تثمين سخى تجاوز الواقع فى ما يخص «دعم التسليح» بالخصوص، أطلق هذا الحديث رغم علانيته بدرجة من الغموض بحيث لم يفهم حينها، إن كان «السنوار» يقصد إمداد إيران لحماس بشكل خاص بالسلاح أم أنه يقصد إجمال دعم فصائل المقاومة عبر حركة «الجهاد الإسلامى» الموالية لطهران. على أى حال مرت الإشارة وبقى الأمر على غموضه المقصود، وربما لم تعلق إيران على هذه الوصلة من المديح، بل لم تراهن من جانبها كثيراً على تعهدات حماس، فإيران من جانبها لم تكن لتعول كثيراً على تلك الخطوة، فى النهاية هى بالكاد تريد مرحلياً استخدام حماس، كورقة وسط احتدام اصطفاف المحاور وارتكازاتها بالإقليم.
هذه المقدمات تفسّر الكثير مما جرى فى الجولة الراهنة، حركة حماس قرأت جيداً أن إسرائيل ضمن أسبابها لاستهداف حركة الجهاد، كون الأخيرة تمثل إحدى الأذرع الإيرانية بالمنطقة، مثلها مثل حزب الله والحوثيين وغيرهما من الفصائل الموالية. تلك الفصائل، والجهاد منها، ينتظمها نسق للعمل الحركى ربما لا تمثل متطلبات «القضية الفلسطينية» المحدّد الأول لها، هذا بطبيعته يبعد الأمر مسافة، مما جعل حماس تبتعد هى الأخرى مسافة مماثلة عن الانخراط فى اصطفاف مباشر مع حركة الجهاد. المحدّد الرئيسى هنا أن حماس لن تخوض معركة غيرها بأى حال، ولن تنقض التفاهمات غير المباشرة التى تنسجها مع إسرائيل لأجل الجهاد أو طهران، خاصة أن الأخيرة لم ترد على ما قامت به حماس تجاهها بالحرارة المطلوبة، حين جعلتها ومحورها المسمى بـ«محور المقاومة» الرقم الأبرز فى ما جرى مايو 2021. بل ربما ستكشف أحداث الأيام القادمة، أن حركة حماس قد تكون قطعت مسافة أبعد، فهى أثناء مراقبتها لوجود «زياد نخالة» وحده فى طهران طوال أيام التصعيد الأخيرة، يبدو أنها أرادت عبر موقفها من الأحداث إرسال حزمة من الرسائل إلى جميع الأطراف.
رسالتها الأولى ستكون لإسرائيل بالتأكيد، بأنها غير معنية بالانخراط فى محور تقوده إيران من الخلف، حتى إن كانت أحداثه الدامية تجرى على أراضيها فى غزة، وتكشف أيضاً عن قدرتها الصارمة فى ضبط عناصرها، ضمانة لعدم الخروج عن النص. وهى تنتظر من إسرائيل مقابل تلك الرسالة، أن تبقى على الوضع القائم بالفصل الكامل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، خدمة لأهدافها الاستراتيجية، التى تتلاقى مع هدف مهم لإسرائيل من العملية العسكرية، بألا يكون هناك ارتباط مستقبلى بين ما يجرى فى الضفة، بما فيها مدينة القدس والحرم الشريف، وبين فعل الرد المعد والمنطلق من داخل قطاع غزة. رسالة حماس الثانية وجّهت إلى حركة الجهاد التى طالما انخرطت مع حماس فى جولات سابقة، كانت حماس فى كل مرة بالمقدمة، وتخوضها وفق حساباتها الحركية الذاتية، فى حين لم تتخلف الجهاد عن الوجود بغرفة العمليات المشتركة، ولا عن بذل الجهد العملياتى المطلوب. هذه المرة بدا لحماس أن مصلحتها تستوجب أن تترك حركة الجهاد لتتلقى «الألم» والخسائر وحدها، وأن تتحمّل فاتورة الخصم من مكانتها وإمكانياتها كى تعود قليلاً أو كثيراً إلى الخلف.
هناك أيضاً بعض من الهمسات تلف سطور الرسالة الموجّهة إلى حركة الجهاد، لها ارتباط بالاختراق الاستخباراتى الذى نفّذته إسرائيل، عبر سهولة وصولها إلى القادة الميدانيين للحركة ونجاحها فى اغتيالهم على هذا النحو، بدقة لافتة وفى وقت قصير للغاية. التفسيرات البريئة التى خرجت بتعجّل تحت القصف الإسرائيلى، أرجعت الأمر إلى خلل أمنى فادح لمنظومة التأمين داخل حركة الجهاد، لكن هناك من تمهل ووقف ليقيس المسافة التى ابتعدت فيها حماس، هل ذهبت لمشارف المربعات المظلمة ولعبت دوراً فى نجاح تلك العمليات؟ فليس هناك من يمكنه تسهيل مثل تلك الاختراقات سواها، فيما تتفاخر طوال الوقت بأن كل ما يجرى داخل أزقة القطاع الضيقة فوق الأرض وتحتها، لا يخرج ولا يتفلت من أصابع يديها بأى صورة، وهذه حقيقة يدركها الجميع. على أية حال قد لا تتورط حركة المقاومة الإسلامية فى ذلك مباشرة، وإن ظل غير مستبعد، كما يدور همساً فى جنبات مخيمى جباليا والشاطئ، يكفى حماس التمرير عبر أحد كوادرها أو عبر وسطاء يستخدمهم جهازها الأمنى طوال الوقت.
تلك الرسائل المتقاطعة بين اتجاهات كثيرة، لم تغفل المأزق الإسرائيلى الداخلى الذى بدا فى احتياج إلى مثل تلك الجولة فى هذا التوقيت، فلم يتأخر عن إشعالها، ليس ليقوم بتصفية حسابات أخرى مع إيران فحسب، بل لإدراك وزير الدفاع والقادة الأمنيين الذين أداروا العملية برمتها، مواقع الأطراف الفلسطينية بدقة، فيما يمكنهم عبرها من إخفاء الشروخ العميقة التى تعانى منها الساحة السياسية الإسرائيلية.