بقلم: خالد عكاشة
فى المقال السابق، وقفنا عند اللقاء الذى جرى فى أنقرة بداية هذا العام، وقبل الإعلان رسمياً عن القضاء على «داعش». هذا اللقاء ترأسه جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى، وتعمّد أن يصحب معه رئيس هيئة الأركان المشتركة «جوزيف دانفورد»، والمبعوث الخاص إلى سوريا «جيمس جيفرى»، فى إطار مساعى التوصل إلى تسوية مؤقتة بين أنقرة وشركاء واشنطن فى سوريا تضمن التعايش السلمى. وفيه أحضر جيفرى «خريطة مشفّرة» بالألوان، للمناطق التى تأمل فيها الولايات المتحدة لإبرام اتفاقية لتقاسم السلطة فى سوريا.
منذ البداية، ظل القلق الأساسى الذى شغل بال أنقرة، وضع الأكراد السوريين، الذين يشتركون فى أجزاء مهمة من الشريط الحدودى، مع المناطق ذات الأغلبية الكردية فى تركيا. وعلى خلفية تنفيذ تركيا عمليتين عسكريتين «درع الفرات» و«غصن الزيتون» منذ عام 2016، ضد «وحدات حماية الشعب»، المعروفة اختصاراً بـ(YPG)، بسبب ارتباطها الوثيق من وجهة نظر تركيا بحزب العمال الكردستانى (PKK)، المصنّف من قبل تركيا، باعتباره مجموعة إرهابية، تقود تمرداً ضد الدولة التركية منذ ثمانينات القرن الماضى.
ولذلك، واجه الثلاثى الأمريكى رد فعل قوياً من أنقرة، أعقبه تجاهل «أردوغان» للاجتماع، بل أوعز للصحافة التركية الموالية للحكومة، بشن هجوم حاد وبعناوين مثيرة، مثل أن الولايات المتحدة جاءت لـ«حماية الإرهابيين»، كما اتهمتهم صحيفة «ستار»، وعلى المنوال ذاته تصدّرت الصحيفة اليومية للإسلاميين «ينى شفق» صورة للمسئولين الثلاثة، تحت عنوان «من تظنون أنفسكم؟»، ليظل الإعلام التركى طوال أيام الزيارة وبعدها، يشير إلى «خريطة جيفرى» باعتبارها «درعاً إرهابية»، لحماية (YPG). لكن المتأمل للرؤية الأمريكية، فى ما يخص الشمال السورى ومرتكزات القوى المتعدّدة فيه، يجد الأمر أكثر تعقيداً من إمكانية التجاوب مع المتطلبات التركية، التى عبّر عنها «جاويش أوغلو» وزير الخارجية، بأن: «بلاده ماضية قدماً، نحو تطهير المناطق السورية الواقعة شرق نهر الفرات من مسلحى الوحدات الكردية، ولا خيار آخر لتركيا سوى القضاء على الإرهابيين المتمركزين فى تلك المناطق».
حتى تاريخ تلك الاجتماعات التى تفجّرت من داخلها مارس الماضى، كانت الاستراتيجية الأساسية للولايات المتحدة، هى تسليم المعركة إلى تركيا، وتم تدوين ذلك فى مذكرة سرية، بعثها جون بولتون إلى مسئولين على مستوى رفيع فى الإدارة الأمريكية، ذكر فيها أن أهداف السياسة السابقة للإدارة الأمريكية فى سوريا، لم تتغير. وشملت تلك الأهداف هزيمة تنظيم داعش، وطرد القوات التى تقودها إيران، والسعى فى ما بعد ذلك إلى حل سياسى للحرب فى سوريا. مقابل ذلك طلبت تركيا الحصول على غطاء جوى، وتبادلاً للمعلومات الاستخباراتية، وغير ذلك من أشكال الدعم العسكرى، وقد جرى نقل تفاصيل تلك الطلبات إلى الجنرال «جوزيف دانفورد» فى أواخر ديسمبر الماضى من نظيره التركى. لكن وجهة النظر التى تشكلت فى البنتاجون على نطاق واسع، كانت تضع محاذير كثيرة أمام المضى لإنفاذ تلك المطالب، مفادها أن الأتراك لا يستطيعون تكرار الدور الذى لعبه الجيش الأمريكى فى سوريا، مشيرين إلى مجموعة من التحديات اللوجيستية والسياسية التى تواجه أنقرة فى دائرتها الإقليمية، وبدا حينها أن عدداً من محللى الاستخبارات الأمريكيين يشاطرونهم هذا الرأى. فهؤلاء كانوا على قناعة، بأن الأتراك لا يستطيعون القيام بذلك، وعلى وجه التحديد، لا يعتقدون أن الجيش التركى لديه القدرة اللوجيستية لنقل قواته إلى عمق وادى نهر الفرات الأوسط فى سوريا، وتوفير الإمدادات التى يحتاجون إليها.
بعد تفجّر الخلاف ما بين واشنطن وأنقرة، وعلى خلفية التصريحات النارية المتبادَلة بينهما، لم تجد الأخيرة بداً من استخدام أذرعها الإرهابية، من أجل توجيه ضربات إشارية خشنة إلى القوات الأمريكية المنضوية تحت مسمى «قوات التحالف الدولى»، والموجودة فى مدن الشمال السورى، ومنها «منبج» بشكل رئيسى، حيث كشفت التحقيقات التى أجراها طاقم الـ(FBI) فى ملابسات تفجير منبج، الذى أودى بحياة 4 من العسكريين الأمريكيين، عن تورّط تركى عبر عملائها فى المناطق التى تُسيطر عليها فى داخل سوريا، فى التخطيط ونقل المتفجّرات وتنفيذ العملية بواسطة أحد عناصر «الخلايا النائمة» لتنظيم داعش. فقد ألقت الأجهزة الأمنية المحلية القبض على أحد المشتبه بهم، الذى يُدعى (عبدالعزيز محمد الشجى، 27 عاماً)، من مواليد مدينة تل أبيض، حيث أدلى أمام الأجهزة الأمريكية باعترافات تفصيلية تضمّنت معلومات مهمة، تشير إلى أن التخطيط للهجوم جرى فى مدينة «إدلب»، ونقلت المتفجرات منها إلى «منبج»، وأنه قد التحق بتنظيم «داعش» عن طريق (أبوعبدالرحمن التونسى)، أثناء سيطرة «داعش» على المدينة عام 2014. وأقر «الشجى» بتلقيه دورة تدريبية، أهلته للعمل حارساً للبوابة الحدودية فى تل أبيض، التى تقابلها مدينة «آكجى كلا» من الطرف الآخر للحدود السورية.
ووجد طاقم التحقيق الأمريكى نفسه، أمام سيل من الاعترافات والمشاهد التى نقل فيها «عبدالعزيز الشجى»، تفاصيل ما كان يجرى على البوابة الحدودية من تنسيق عالى المستوى ما بين قيادات «داعش»، وسلطات الجانب التركى، التى استخدمت هذا المنفذ من أجل تمرير الدواعش الأجانب من الدول الغربية والعربية للانضمام إلى «داعش»، وتقديم كل الاحتياجات لهم، وفى الاتجاه المعاكس كان يجرى نقل جرحى «داعش» عبر سيارات الإسعاف إلى تركيا عبر البوابة الحدودية ذاتها. وبعد 8 أشهر من العمل فى المعبر، طلب منه الإرهابيون المغادرة إلى مدينة الرقة، لتُسند له هناك مهام أخرى. أدلى «الشجى» بالمعلومات التفصيلية عن العنصر الذى جاء من «إدلب» إلى «منبج»، حاملاً المتفجرات التى استُخدمت فى العملية، وأنها تمت عن طريق زرع عبوة جرى تفجيرها بهاتف محمول، كان «الشجى» هو من وفره له، وشحنه بالرصيد الكافى لتنفيذ العملية.
لم تكن تلك الاعترافات وما تبعها من معلومات عن هذه الضربة التركية «الخشنة»، ببعيدة كثيراً عما اشتعل من تبدّل سريع وتصعيد حاد، جاء لاحقاً ما بين واشنطن وأنقرة.. وعن هذا يدور حديثنا الأسبوع القادم بمشيئة الله.