بقلم - خالد عكاشة
قطاع كبير ومهم من عالمنا العربى صار اليوم بمجرد رصده لمساحة تغطية وترويج غير اعتيادية تقوم بها قناة «الجزيرة»، لقضية أو واقعة بعينها، يسارع بتحسس رأسه، ويعيد تلقائياً ترتيب مساحات مصداقية الحدث فى وعيه الداخلى.
الأحدث هو قضية اختفاء الصحفى والكاتب السعودى جمال خاشقجى، وهو بشخصه وسيرته قادر بكل تأكيد على صناعة محتوى هائل من الإثارة. وجاءت تغطية «الجزيرة» للحدث نموذجاً لما تستهدفه فى حالات مشابهة، فهى من اللحظات الأولى لديها رواية واحدة تلح على ترويجها، وتضمن عادة نفاذها إلى وسائل الإعلام الغربية الكسولة التى تجدها، من اللحظات الأولى للحدث، جاهزة وطازجة ومكتملة العناصر الخبرية، حتى تبدو عادة وكأنها معدة مسبقاً. وهذه الطريقة المجربة قبلاً فى العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس، فى وقائع وأحداث كبرى لم ينسَها أحد حتى الآن، تمثلت فى قضية اختفاء «خاشقجى» فى تعليق مبكر جداً للاتهام فى عنق السعودية، ومن ثم وضع تركيا الحليفة فى موقع الباحث عن الحقيقة، وإبراز وجود الخطيبة المزعومة تركية الجنسية كشاهد وحيد للواقعة ومصدر رئيسى للأخبار والتحليلات.
هذه العناصر الثلاثة الرئيسية يلزمها مجموعة من منصات البث والترويج الدولى، وهذا عادة ما تعتمد فيه قطر، وفق عشرات المرات المماثلة، على كل من «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، وهما من تكفلتا بإذاعة رواية المناشير العملاقة وعمليات تعذيب وتشويه جسد خاشقجى، وزعم امتلاكهم لمقاطع وأصوات تدل على ذلك. وهذا النسق يتم إطلاقه فى البداية، حتى ضمان تثبيته فى الذهنية العامة للمتابعين، لتعاود تلك المنصات لاحقاً تفكيك الرواية والتنصل منها، باعتبارها نقلاً عن مصادر تركية لا يذكر اسمها أبداً، ثم تسندها إلى روايات صحف تركية فيما بعد، حتى يصل الأمر إلى تشوش التثبت ممن نقل عن الآخر، هل الجانب التركى عن الأمريكى أم العكس. لن يتوقف قطار الأخبار المنطلق بأقصى سرعة أمام إجابات من هذا النوع، ولن تتكلف جهات التحقيق التركية مشقة إصدار بيان حاسم فى وقته، خاصة أن تلك المنصات زعمت أن هذه الأخبار نقلاً عن عناصر منها. بل ستكون جاهزة لإضفاء مزيد من اللبس، بممارسة الصمت الضبابى الذى لن يتحرك سوى فى حالات مجابهة مباشرة، فيسهل حينها الإفلات بكونها لا تعدو تسريبات صحفية، بعد أن تكون الرواية قد استقرت فعلياً، وهذا ما هو حادث الآن بعد أيام من اصطناعه.
بالطبع لن يشير أحد إلى أن «جون برادلى»، المحلل والخبير البريطانى الشهير المتخصص فى شئون الشرق الأوسط، وهو من المحسوبين على أعداء المملكة علانية، خاصة أنه صاحب الكتاب الأعلى شهرة ومبيعاً «انكشاف السعودية.. داخل مملكة فى أزمة»، منذ أيام نشر مقالاً يحمل فيه السعودية المسئولية كاملة عن اختفاء «خاشقجى»، بل يتهمها صراحة بقتل الرجل، متبنياً كامل الرواية القطرية والتركية. لكنه أورد بمقدمة المقال وفى متنه مجموعة من المعلومات التى ذكرها بصيغة المعلوم من الأمر، مثل كون «خاشقجى» رجلاً قضى ثلاثة عقود من العمل بشكل وثيق مع أجهزة الاستخبارات فى العالم العربى والغرب، وأنه فى سبعينات القرن الماضى انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، التى وُجدت لتخليص العالم الإسلامى من النفوذ الغربى. لذلك كما ذكر «برادلى» كان إسلامياً سياسياً حتى النهاية، حيث امتدح جماعة الإخوان المسلمين فى صحيفة «واشنطن بوست»، كما دافع عن المعارضة الإسلامية «المعتدلة» فى سوريا مراراً وتكراراً. وبتأكيد الكاتب البريطانى، فإن «خاشقجى» لم يُخفِ أبداً أنه يؤيد وجود الإخوان المسلمين، فى جميع أنحاء الشرق الأوسط.
هل هذا كافٍ كى يفسر طبيعة زرع المدعوة «خديجة جنكيز» التركية ذات الماضى المثير للريبة، فمن باحثة فى العلاقات العثمانية الفارسية إلى متخصصة فى التعايش المذهبى فى سلطنة عمان، وصولاً إلى مرافقة لـ«خاشقجى» فى مشواره الأخير، أو «أستاذ جمال» كما وصفته على صفحاتها الشخصية فى لقائهما الأول بمنتدى «بناء ترتيبات أمنية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، الذى عقد فى إسطنبول مايو الماضى، برعاية الرئاسة والاستخبارات التركية. هذا يوضح أن الحبال التى نسجتها «جنكيز» حول «خاشقجى»، لم يرَها أقرب المقربين لـ«جمال» من أسرته أو أصدقائه المقربين فى تركيا. لذلك لم تتمكن السلطات التركية حتى الآن، وسط هذا البحث المحموم، من الحصول على شخص واحد يؤكد معلومة علاقة الخطوبة بين الاثنين.
وما لبث أن بدأت تلك الشخصية المريبة فى مخاطبة الرئيس الأمريكى ووزير الخارجية السعودى فى مناشدات وتغريدات محترفة، تتلقفها وسائل الإعلام يومياً لإبرازها. هذه شخصية لكل من عمل بالمجال تبدو أقرب إلى سلوك العميل الذى تم إعداده جيداً، وتتم إدارته من الخلف بدقة. فلا يوجد ثمة أخطاء فى التوقيتات، أو انفعالات عفوية غير محسوبة، حتى بعد انكشاف زيف «قصة الآيفون» التى كانت ستلعب فيها دور المستقبل، تم سحب القصة سريعاً من التداول ومن دون تعليق من المذكورة، فهى لا تملك من أمر ردات فعلها شيئاً، فالتفاصيل جميعها لها نسق لا تملك هى العبث به بالمطلق.
التمهيد النيرانى الذى سبق عملية اختفاء «خاشقجى»، عبر الضغط الأمريكى على قصر الحكم بالسعودية، مروراً بملابسات صفقة الإفراج عن القس أندرو برونسون، يضع ربما المشهد برمته فى القلب من تلك الحزمة، القادرة على فتح نوافذ جديدة أمام أردوغان. حيث لم يتورع قبلاً عن الدفع بأحد رجال الأمن الرسميين لإطلاق النيران جهراً على السفير الروسى فى وسط أنقرة، قبل أن تتم تصفيته برصاصات الصمت الأبدى. حينها كانت تركيا بصدد وضع قواعد جديدة للعبة مع روسيا، وهى المستمرة إلى الآن على أحسن ما يكون. لن يكون هناك قريباً حل للقضية أو ظهور سريع لـ«خاشقجى» أو جثته، فهذه من القضايا التى فى الأصل صُنعت لتبقى.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع