بقلم: خالد عكاشة
ما زلنا نستعرض ما قامت بنشره مؤخراً صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، كعمل صحفى استقصائى قامت عليه مجموعة محترفة من الصحفيين من مختلف الجنسيات، وقد جرى نشره فى العديد من المواقع الإخبارية الدولية المتخصصة بلغات عديدة، لكننا فى الحلقة السابقة واليوم نكتب هذا الاستعراض وما يحويه من معلومات، عن نص ما نشرته الصحيفة الإسرائيلية الشهيرة استناداً إلى طبيعة الموضوع، وثيق الصلة بما اقترفته أطراف إسرائيلية فى أيام وشهور «النكبة» المفصلية من العام 1948، وما يجرى التزييف والتعمية عليه الآن بمعرفة المؤسسات الرسمية للدولة الإسرائيلية، من أجل ليس فقط طمس الحقائق، إنما الأهم بهدف صناعة سردية مزورة «متكاملة» عن كيفية احتلال أرض فلسطين، ليس أقلها تسمية العدوان الكارثى بـ«الاستقلال».
وقفنا فى المقال السابق عند ما يقوم به «جهاز مالماب»، وهو الإدارة الأمنية السرية التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، من إزالة ممنهجة معترف بها لكافة الوثائق التاريخية الإسرائيلية، من كافة الأرشيفات التابعة للدولة، التى نشر البعض منها سابقاً داخل إسرائيل نفسها، واليوم ونحن نستكمل عرض التحقيق الاستقصائى، نجدنا أمام «مذكرات آهارون كوهين» عضو اللجنة المركزية فى حزب مبام الإسرائيلى، التى لخص فيها أحد الاجتماعات للجنة السياسية فى الحزب، حيث كان يدور حول قضية المجازر وعمليات التهجير عام 1948، فى هذا الاجتماع دعا المشاركون إلى ضرورة التعاون مع لجنة التحقيق التى كانت ستحقق فى تلك الأحداث، وتركزت إحدى الحالات التى ناقشتها اللجنة بما وصفته اللجنة أثناء الاجتماع، وأوردها كوهين بهذا النص فى مذكراته بـ«الأعمال الخطيرة»، التى نفذت حينها فى (قرية الدوايمة) شرق «كريات جات»، فى هذا السياق أشار أحد المشاركين بالاجتماع إلى «ميليشيات ليهى» السرية، التى كانت وقت انعقاد اجتماع الحزب قد جرى حلها، وأشير أيضاً إلى أعمال السلب والنهب بالقول: إنه «لم يبق متجر عربى فى اللد والرملة وبئر السبع، إلا واقتحم ونهِب»، حيث ألقى حينها اللواء التاسع باللائمة على اللواء السابع فى ارتكاب تلك الجرائم، الذى ألقاها بدوره على اللواء الثامن. وتشير الوثيقة الخاصة بالاجتماع إلى أن «الحزب يعارض عمليات الطرد والتهجير، إن لم تكن هناك ضرورة عسكرية لذلك، لكن تظل هناك مقاربات مختلفة فى ما يتعلق بكيفية تقدير تلك الضرورة، حيث يحبذ الحزب إضافة المزيد من التوضيحات فى هذا الصدد، فقد جرى توصيف ما حدث فى (الجليل) بأنه: «ليس سوى تصرفات نازية، وعلى جميع أعضائنا الإبلاغ عما يعرفونه».
يورد التحقيق الاستقصائى، بعد ذلك إحدى الوثائق الإسرائيلية التى يصفها بـ«الأكثر أهمية»، كونها تتناول أصول قضية اللاجئين الفلسطينيين، كاتب تلك الوثيقة ضابط فى وحدة «خدمة المعلومات شاى»، التى أصبحت لاحقاً «جهاز الأمن العام الإسرائيلى شاباك»، الوثيقة تاريخها عام 1948 وقد عنونت بـ«هجرة العرب من فلسطين»، وتناقش فى طيات ما ورد فيها أسباب تفريغ البلاد من سكانها العرب، مع تفصيل ظروف هذا الفعل لكل قرية على حدة، بحسب نص ألفاظ الوثيقة، ويشار إلى أن لها دلالات صياغة لا تخفى على أحد، وقد أشار التحقيق الاستقصائى إلى ملحوظة هامة، بأن تلك الوثيقة كانت ركيزة مقالة نشرها «بينى موريس» فى عام 1986، لكن ما جرى بعد نشر المقالة أن الوثيقة أزيلت من الأرشيف، وتعذر على الباحثين لاحقاً الوصول إليها، فعقب نشر المقال أعاد فريق «جهاز مالماب» فحص تلك الوثيقة، وأعطى أوامره بأن تظل سرية، حتى تمكن الباحثون فى «معهد أكيفوت» بعد ذلك بسنوات، من الحصول على نسخة منها، وتقدموا بطلب لاستطلاع رأى الرقيب العسكرى فى جواز نشرها بالمجال البحثى، ليتمكنوا من استصدار الموافقة بعد سنوات من التعتيم، واليوم تجد تلك النسخة طريقها إلى هذا التحقيق.
الوثيقة مكونة من (25 صفحة)، وتقر فى مقدمتها بإخلاء القرى العربية من سكانها، وبحسب ما كتبه الضابط الإسرائيلى فيها، وهو هنا يتحدث عن العام 1948، شهد شهر أبريل «زيادة كبيرة» فى حالات الهجرة، فيما كان مايو «مباركاً» بإخلاء أكبر عدد من الأماكن، ثم يأتى التحقيق الاستقصائى ليتناول جزءاً منها يفسر أسباب هجرة الفلسطينيين، فبحسب الرواية الإسرائيلية التى انتشرت على مدار العقود الماضية، تقع مسئولية «هجرة العرب من إسرائيل» على عاتق السياسيين العرب، الذين شجعوا حينها السكان على الرحيل، غير أن ما كشف عنه هو أن (70% من العرب) الذين هاجروا، وفق الوثيقة نفسها، كانت هجرتهم نتيجة للعمليات العسكرية اليهودية، حيث يعدد كاتب الوثيقة أسباب رحيل العرب طبقاً لأهميتها، من وجهة نظره فى هذا الوقت المبكر من الحدث المفصلى فى صناعة «النكبة».
السبب الأول؛ هو أفعال العداء اليهودية المباشرة ضد أماكن الاستقرار العربى، أما السبب الثانى؛ فهو تأثير تلك الأفعال على القرى المجاورة، السبب الثالث؛ يرجع إلى العمليات التى تقوم بها حركتان منشقتان هما «الآرجون وليهى» السريتان، أما السبب الرابع لخروج العرب من البلاد، فهو يعود إلى الأوامر التى أصدرتها المؤسسات و«العصابات» العربية (بحسب توصيف الوثيقة لكل الجماعات العربية المقاتلة) فى كافة فقراتها، خامس تلك الأسباب؛ هو التهامس بالعمليات اليهودية لدفع السكان العرب إلى الفرار، ثم يأتى أخيراً العامل السادس؛ وهو «إنذارات الإخلاء» التى كانت تطلق بمعرفة الإسرائيليين، كما يؤكد الكاتب فى وثيقته على أن «العمليات العدائية» كانت السبب الرئيسى لهجرة السكان، إضافة إلى ذلك أن استخدام «مكبرات الصوت» باللغة العربية أثبت فاعليته إلى حد بعيد عندما جرى ذلك بشكل صحيح، أما بالنسبة إلى عمليات «الآرجون وليهى»؛ فيلاحظ أن كثيرين فى قرى «الجليل الأوسط» بدأوا فى الفرار، عقب أسر وجهاء قرية «الشيخ مؤنس»، فقد عرف العرب حينها أنه ليس كافياً عقد اتفاقية ما مع «الهاجاناه»، وأن هناك يهوداً آخرين يجب الحذر منهم بشدة.