بقلم : خالد عكاشة
بداية، من الواجب الوقوف أمام نشر هذا الكشف الصحفى «الاستقصائى» بمعرفة جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، وهى شجاعة تُحسب للجريدة، وتستوجب التحية «المهنية»، فما جاء بهذا الكشف يضرب فى عمق السردية الإسرائيلية التى ظلت تعتمدها لعقود، وخاضت بها العديد من المواقف الرسمية والمفاوضات وغيرها، بل وربت عليها أجيالاً وُلدت على هذه الأراضى التى احتُلت منذ العام 1984، ودأبت تلك الأجيال المتتابعة على اعتمادها وتصديقها، فضلاً عن الانخراط العميق فى «إنكار» والتنازع مع الملاك الأصليين على حقوق السيادة، وبالنظر أيضاً إلى حجم الانتهاك الإنسانى الفادح الذى مورس على المواطنين وكشفه هذا التحقيق.
التحقيق يبدأ بواقعة مثيرة دفعت القائمين عليه للدخول على خط التفتيش وراء ما يمكن الوصول إليه من تلك الخيوط التى لم تكن فى حسبان أحد منذ أربع سنوات وقت بداية تلك الرحلة الصادمة. حينها كانت المؤرخة الإسرائيلية «تامار نوفيك» تُجرى مطالعة لوثيقة وجدتها فى ملف «جوزيف واشيتز» فى «حزب مبام» اليسارى، فى أرشيف «ياد يعارى»، لتجد الوثيقة التى بدا أنها تصف أحداثاً وقعت فى حرب 1948، تنص على: «فى قرية صفصاف (وهى قرية فلسطينية بائدة قرب مدينة صفد)، أُلقى القبض على 52 رجلاً وقُيدوا معاً، ثم حُفرت لهم حفرة وأُطلقت عليهم النيران، حيث ظل عشرة منهم يرتعشون، فجاءت النساء يستعطفن من أجل الرحمة، ليُعثر على جثث لستة رجال من كبار السن، وكانت هناك 61 جثة وثلاث حالات اغتصاب، واحدة وقعت شرق صفد لفتاة فى الرابعة عشرة من العمر، و4 رجال أُطلق عليهم الرصاص وقُتلوا، فضلاً عن أن إحدى الجثث قُطعت منها أصابع اليد بالسكين لانتشال الخواتم منها». تلك الوثيقة، كما جاء بالتحقيق، جاءت، وفق هذا النص، من دون ذكر أسماء مرتكبيها، أو الإشارة إلى من يقف خلفها.
لكنها، ببشاعة ما حوته، فتحت باب البحث عن المزيد من المعلومات التى يمكنها إجلاء الحقائق التى جرت إبان حرب 1948 وعشية إعلان دولة إسرائيل، ليتبع ذلك ما وصل إليه التحقيق المشار إليه، وهو ما ذكر بأن الجيش الإسرائيلى استولى على قرية صفصاف فى الجليل الأعلى، فى عملية عسكرية سُميت «حيرام» نهاية عام 1948، وأُنشئت على أنقاضها «موشاف صفصوفة». وقد أثيرت مزاعم، على مدار الأعوام الماضية، حول ارتكاب «اللواء السابع» لجرائم حرب فى القرية. دعمت تلك الاتهامات الوثيقة التى عثرت عليها «تامار نوفيك»، وهى وثيقة لم تكن معلومة من قبل لدى العلماء والباحثين. وقد تمثل الوثيقة أيضاً دليلاً إضافياً على أن كبار الضباط الإسرائيليين كانوا على علم بما كان يجرى فى حينه. هذا دفع «نوفيك» لاستشارة مؤرخين آخرين بشأن الوثيقة، ليخبرها «بينى موريس» الذى تُعد كتبه مراجع أساسية فى دراسة تلك الحقبة (النكبة)، أنه أيضاً عثر على وثائق مشابهة فى الماضى. وكان بهذا يشير إلى مسوّدات، كتبها «آهارون كوهين»، عضو اللجنة المركزية فى حزب مبام، استناداً إلى إحاطة أدلى بها فى نوفمبر 1948 «إسرائيل جليلى»، قائد الأركان السابق فى ميليشيات الهاجاناه، التى تحولت لاحقاً إلى «جيش الدفاع الإسرائيلى». فى هذه الواقعة أشارت مسوّدات كوهين إلى أن «52 رجلاً من قرية صفصاف قُيدوا بحبل، وأُلقوا فى حفرة ثم أُطلقت عليهم النيران». واللافت أنه أكد هو الآخر واقعتَى الاغتصاب وانتزاع الخواتم من أصابع اليد بالسكاكين.
يذكر التحقيق الاستقصائى بعدها أنه قد توصَّل إلى وقائع مؤكدة تفيد بأنه منذ بداية العقد الماضى، تقوم فرق من وزارة الدفاع الإسرائيلية بتمشيط الأرشيفات الإسرائيلية وإزالة الوثائق التاريخية، فالمؤرخة «نوفيك» تشير إلى هامش كتب فى حلقة دراسية بعنوان «منشأ أزمة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949» وأن هذه الوثيقة وُجدت فى أرشيف «ياد يعارى»، إلا أن «نوفيك» فوجئت باختفاء الوثيقة حين عادت إلى الأرشيف لفحصها. وحين سألت القائمين على الأمر عن مكان الوثيقة، أخبروها أنها وُضعت فى مكان مغلق فى أرشيف «ياد يعارى» بأمر من وزارة الدفاع، غير أن ما يجرى إخفاؤه ويُدرج فى الخزائن الموصدة لا يقتصر على الأوراق المتصلة بمشروع إسرائيل النووى، أو أسرار العلاقات الخارجية للبلاد، إذ تم التستر أيضاً على مئات الوثائق الأخرى، كجزء من جهود منظمة لإخفاء أى أدلة على أحداث «النكبة».
الثابت هنا أن من اكتشف هذا الأمر بداية هو «معهد أكيفوت لأبحاث الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى»، فوفق تقرير أعده المعهد، توصَّل إلى أن من يقود هذه العملية هو «جهاز مالماب»، وهو إدارة أمنية سرية فى وزارة الدفاع الإسرائيلية، والاسم هو الاختصار العبرى لجملة «مدير أمن المؤسسة الدفاعية»، وبالطبع نشاطها وميزانيتها يخضعان للسرية التامة. ويؤكد التقرير أن «جهاز مالماب» أزال وثائق تاريخية بشكل غير قانونى، من دون سلطة تخوله القيام بهذا، فضلاً عن القيام بعزل والإغلاق على بعض الوثائق التى سبق تحريرها وإعدادها للنشر من قبَل الرقابة العسكرية. وقد نُشرت بالفعل بعض الوثائق التى أُدرجت فى تلك الخزائن، ووجد التقرير الاستقصائى الذى أجرته «هآرتس» أن «جهاز مالماب» قام بإخفاء شهادات لقادة فى الجيش الإسرائيلى عن حالات قتل مدنيين وهدم وإزالة القرى، إضافة إلى توثيق عمليات «طرد البدو» أثناء العقد الأول من إنشاء الدولة اليهودية، لتكشف الصحيفة الإسرائيلية عن حوارات أجرتها مع مديرى الأرشيفات العامة والخاصة، حيث ذكروا لها أن موظفى الإدارة الأمنية تعاملوا مع الأرشيفات وكأنها ملكية خاصة، مما دفع «يحئيل حوريف»، الذى أدار «جهاز مالماب» لعقدين حتى عام 2007، لأن يصرح بكل صراحة وجرأة لصحيفة «هآرتس» بأنه هو من بدأ هذا المشروع الذى لا يزال قائماً، مؤكداً للصحيفة أنه من المنطقى إخفاء أحداث 1948، لأن الكشف عنها قد يؤدى إلى خلق حالة من التوتر والاضطرابات بين السكان العرب فى البلاد، كما أنها تحقق تقويضاً لصدقية الدراسات حول تاريخ قضية اللاجئين.