بقلم : خديجة حمودة
نعيش حياتنا جميعاً منذ اللحظة التى ندرك فيها معانى الكلمات، نحلم بالجنة وقد تعلمنا وسمعنا على اختلاف أدياننا ما يجعلها بالنسبة لنا الجائزة الكبرى، التى أعدها لنا الله، ولعل أكثر الأمنيات التى تلازمنا جميعاً لقاء الأحبة بها الذين غابوا عنا بمختلف الأسباب، سواء رحيل أو هجر أو عدم وصال أو غياب الحب والنصيب أو سوء الحظ، والوقوع بين أيدى بشر لا يعرفون المعنى الحقيقى للإنسانية والرحمة والحنان والعطاء والأمانة والوفاء بالوعد، فتظل ذكراهم وصورهم المثالية التى نرسمها بمشاعرنا ورغباتنا وآمالنا تتردد فى الأحلام فى انتظار اللقاء الموعود وسحره وأشواقه وقضائه على الحنين الموجع الذى يلازم البعض سنوات عمره.
ولأن لكل منا حكاية العمر كله وحباً وأملاً وفرحة وترقباً ووعوداً، فإننا ننتظر الجنة التى سنحيا فيها حياة أبدية ومتعة لا تنتهى دون الآلام التى عانيناها وعشناها، وكم من أعمال فنية على مستوى العالم واختلاف الثقافات خرجت تتحدث عن الفردوس، وهو المرادف الأول للجنة، بل وتحمل اسمه، وأبدع أصحابها فى تصور ووصف وشرح محتواها وملامح سكانها وملابسهم وعلامات السعادة والرضا على وجوههم ونضارة أجسادهم وملامحهم الشابة التى لا تشيخ وضحكاتهم والموسيقى الإلهية التى يسمعونها والفاكهة التى تحيطهم وأنهار الشراب الذى لا يسكر فى كل مكان، ونشوة السعادة المستمرة التى لا تنتهى، ويقول الفلاسفة عن أسعد لحظات العمر (الخروج من الطفولة هو التكرار الأبدى لمسألة الخروج من الجنة)، فالصغير يظل محاطاً بالملائكة تؤانسه وتضاحكه ويلهو معها وتحرسه وتحميه من أى أذى وترزقه ما يتمنى بقلبه الأخضر البرىء، وتشبعه إن هاجمه الجوع وتحتضنه فى نومه وتنافس فى نعومة أحضانها حضن أمه بل وتسبقها إليه دائماً، ويراها ويتحسس ملامحها النورانية فتنطلق همهماته ومناغاته وضحكاته حتى يغادر تلك المرحلة الناعمة الرقيقة والبريئة، وينتقل إلى المراحل الأخرى من حياته ليعانى وينغمس فى الواقع وتهاجمه أحياناً آلام وإخفاقات ومحن لم تمر به فى جنة الطفولة.
فأى جمال تحمله كلمة (انت جنتى) عندما يسمعها الحبيب! ويكفى أن واحداً من أشهر الشعراء (إيليا أبوماضى) خاطب حبيبته قائلاً (أيقنت أنك جنة خلابة فحننت من بعد المشيب إليك)، أما الشاعرة نازك الملائكة، فقالت (كيف يشقى الراعى وبين يديه جنة من مفاتن وضياء)، وما زال صوت أم كلثوم يردد (أنت يا جنة حبى واشتياقى وجنونى)، وفى أشهر قصائده وصف نزار قبانى حياة المحب القلقة (اختارى الحب أو اللا حب لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار)، وهنا نكون قد وجدنا ما نبحث عنه فى حكاية العمر كله، التى نتمناها جميعاً فى جمال الجنة من كلمات الشعراء والكتاب.
فما الذى ينقص منا إذا أعطينا أحبتنا ما يريدون وجنبناهم الحرمان والمعاناة وطول الانتظار وألم القسوة والجفاف، حتى إننى سمعت إحدى السيدات تقول (لم أجد فى حياتى من المحيطين بى من أتمنى أن أصحبه فى الجنة!) فأى علاقات خربة تلك التى تدفع بإحساس كهذا لقلوبنا، وأى جراح أو ندوب تلك التى تصيب الأرواح من المحبين تدفعهم للرغبة فى الفرار حتى بعد الموت من محبين أدموا قلوبهم وأفكارهم لتتلون بتلك الألوان الداكنة القاتمة! وإليكم أحبتى أقول فلنحاول جميعاً أن نعيش جمال الحب ونستمتع به بجميع مراحله، هيا نحب الأيام والحياة والمقربين، ولنكن لهم جنة المأوى وجنة المنتهى، ولنقدم لهم زهور الجنة ونسمعهم صوت عصفورها ولنهدهدهم ونضمهم ونحتويهم، فنكون لهم الملاذ والمأوى والدار والوطن والحلم والسلام والأمان وكل مرادفات السعادة.
ولتذكروا دائماً أن الفرق بين الجنة التى حلمنا بها أطفالاً وشباباً وشيوخاً، والتى نكتبها بفتح الجيم والنون ونجمعها بكلمة جنات وجنان، والتى تعنى الستر من بين معانيها، والكلمة الأخرى التى تكتب بنفس الحروف مع اختلاف كسر الجيم وتشديد النون كبير ومخيف، حيث تعنى الثانية طائفة من الجن. أدعو الله أن تكونوا جنة لأحبتكم وأن تعيشوا حكاية العمر كله.