بقلم - خديجة حمودة
من أجمل اللقطات أن تستيقظ على حوارات عالية الصوت رقيقة ودقيقة النغمات تبدو كأنها صادرة عن آلة موسيقية تستعد للعزف وتقفز على درجات السلم الموسيقى، إلا أنه سرعان ما تكتشف أنها صادرة من أصدقائك الذين يشاركونك الحياة فوق أغصان الشجرة الملاصقة لبيتك ونافذتك.
وفى عالم الطيور اعتدنا أن نستمع إلى أرقى الحوارات وأمتعها، فنشعر كأن تلك الأصوات تعزف سيمفونية عالمية ساحرة تحكى قصص الإعجاب والغزل والغرام والوفاء والحفاظ على مشاعر الحبيب ومواساته والالتصاق به واحتضانه تحت الجناح لتدفئته ومساعدته والتنازل له عن الطعام بكل رضا وسعادة والإحساس بالمسئولية وضرورة دعمه وبناء العش الذى يحتضن داخله الصغار ويدافع عنه ضد أى معتدٍ.
وقد تحدث الفلاسفة القدماء كثيراً عن لغة الطيور وأسرارها وعلاقتها بالبشر، حتى إن بعض الطرق الصوفية قالوا عنها (لغة الملائكة)، وكتب عنها المؤرخ البريطانى (هارولد بيلى) كتاباً كاملاً تحت اسم (اللغة الضائعة للرموز)، أشار فيه إلى أنها كانت تسمى أحياناً (اللغة الخضراء)، وأكد أن فهمها يعزز علاقة الإنسان بالطبيعة ويعمق فهمه لها ويقال عنها أيضاً إنها أول لغة خلقها الله فى الكون وكانت لغة جميع المخلوقات بما فيها الإنسان الأول.
وفى الموسوعات وكتب التاريخ القديم وصفت اللغة الهيروغليفية بأنها (أبجدية الطيور)، ولم يتوقف الأمر على ذلك فقط، فقد دخلت لغة الطيور الموسيقى المعاصرة، حيث ألّف الموسيقار الفنلندى (جان سيبيليوس)، فى مطلع القرن الماضى، قطعة موسيقية بعنوان (لغة الطيور)، وإذا نظرت إلى مجموعة من الطيور الصغيرة ستشعر بدفء المشاعر وقوة الاحتياج الذى تترجمه تلك المخلوقات الدقيقة بالاقتراب والالتصاق وترتيب مجموعاتها حتى فى أثناء الهجرة من قارة لأخرى فتبدو كما لو كانت جيوشاً عسكرية متلاحمة مرتبة منسقة تتحرك خلف قائدها فى مشهد مهيب.
ويبدو أننا نحن البشر فقدنا الكثير مع الوصول للعالمية وسط التكنولوجيا والأجهزة المعقدة التى تفصلنا عمن حولنا وتغلق علينا جميع الحواس بحجة واهية لا طعم لها ولا معنى وهى (الخصوصية) التى فرقت الأحبة وفتتت جميع العلاقات وألغت التجمعات.
فإذا كنت من المتابعين للظواهر الاجتماعية والتغيرات التى تطول المجتمع، فلا بد أنك أحسست وشاهدت نزعة الاستقلال التى سيطرت على الأجيال الجديدة وعلى الفتيات وساهمت فى إفشال المئات من الزيجات والعلاقات، والغريب أن تلك الظاهرة لم تقابلها أى مقاومة أو رفض من الشباب، بل وصل الأمر للتشجيع من العائلات وحث الفتيات على العمل والدراسة والسفر دون ارتباط، ويكفى أن تلاحظ الانفصال الذى حدث فى المجتمع بين عالمى الفتيات والشباب، فالجماعات التى تسافر أو تقيم الاحتفالات الخاصة غالبها تميل إلى التمييز إلى حد ما.
وعلى أطباء علم النفس والاجتماع دراسة تلك الظاهرة المفزعة التى ستقضى على كل صور المشاعر الإنسانية وعلى تلك اللقطات الرومانسية التى اعتدنا رؤيتها والاحتفاظ بها فى صناديق الحب والذكريات حتى لا تنتحر المشاعر الحقيقية والأحلام، ولا مانع أن تكون لغة الملائكة هى دليلنا وطريقنا إلى السعادة، خاصة بعد أن أثبتت الدراسات أن بعض النظم الصوتية التى تستخدمها الطيور شبيهة بتلك الموجودة فى اللغات البشرية، بل ويمكن القول إن أغانى الطيور تضبط التناغم بين موجات أدمغتنا والموجات الصوتية التى تمتلئ بها الأرض والكواكب من حولنا.