بقلم - خديجة حمودة
عندما يتحدث الأطباء فى ندواتهم العلمية ومجلاتهم الدورية ودراساتهم العليا ويسجلون تجاربهم التى عاشوا فيها لحظات الميلاد والخروج إلى عالمنا الرحب بعد تسعة أشهر وسط الظلام والدفء، فإن كلماتهم تشير إلى أنه من المفروض والضرورى والحقيقى أن تنفصل (المشيمة)، وهى العضو الذى ينمو فى رحم الأم أثناء الحمل ويعمل على توفير الأكسجين والعناصر المغذية للجنين أثناء نموه وينقى دمه من الفضلات، ومعها الحبل السرى الذى يربط الأم بالوليد.
إلا أن الحياة والتجارب الإنسانية والمشاعر المتدفقة التى لا تتوقف وتزداد مع الأيام والمواقف السعيدة والإحباطات والنجاحات والأزمات لها رأى آخر، فتلك الآلام والآهات والضحكات التى تخرج من القلوب تؤكد أن الانفصال الطبى لم يحدث كما هو مقرر له، أو بمعنى أدق لم ينجح ولم يتم بالدقة المطلوبة، وبالتالى تتحول تلك القلوب بما تحمله من مشاعر إلى أبراج من الحب، والمدهش والمبهج والصادق أن تلك المشاعر ليست لصاحب المشيمة والحبل السرى فقط، بل إنها تضم كل من ينتسب إليه ويشاركه الدم والحياة والأيام والليالى، حتى إن ابتعد وأخذته الأقدار إلى حياة خاصة وقارات بعيدة.
أبراج تبنى بدقة شديدة، تشبه تلك الطريقة الهندسية التى استخدمها القدماء المصريون فى بناء الأهرامات؛ حيث استخدموا جميع العلوم الفلكية واللوجيستية والهندسية والرياضية المتقدمة فى عملهم، ويبدو أننا تعلمنا منهم ولكننا استبدلنا بتلك الأحجار الضخمة قصص الحب وأبطالها وفرسانها ووضعناها بنفس المقياس الهندسى فانضمت فى النهاية إلى عجائب الدنيا حتى وإن لم نعلنها صراحة ولم تسجلها كتب التاريخ.
أبراجنا الإنسانية تضم أجمل وأرقى حكايات العمر وصوره الفوتوغرافية ولمساته وهمساته وحيرته وقلقه، وفيها نعيش لحظات الحرمان الموجعة وصدمة سعادة اللقاء بعد غياب أو يأس والتى تشبه تحول الأجساد والقلوب إلى شظايا مبعثرة يصعب جمعها وتشكيلها من جديد وربما ضياعها بين أوراق الأيام والساعات والثوانى.
وإذا كنا أصبحنا نعيش فى عالم الأبراج المتناطحة ونتنافس على الأعلى والأضخم والشامل الجامع ما بين أماكن للسكن تعلو بنوكاً وشركات عالمية ومكاتب محاماة ومحاسبين قانونيين وأخرى للأوراق المالية وفنادق فاخرة ومحال تحمل أسماء عالمية وتبيع القطع الأثرية النادرة والمجوهرات والأحجار الكريمة وتتعامل مع المشترين بالعملات الأجنبية وكروتاً مالية حديثة لا تفتح إلا ببصمة العين ولا تعترف بالأرقام السرية، فالأبراج وصلت بعلوها إلى كل جديد ومبتكر وآخر صيحات التكنولوجيا والاتصالات وكاميرات المراقبة التى تسجل كل ما يدور داخلها حتى دقات قلوب المترددين ونظراتهم وعدد خطواتهم ولفتاتهم ودرجات حرارة أجسادهم، إلا أن كل هذا لا ينافس أبراج الحب التى نتحدث عنها.
فيكفينا أن ننجح فى قياس درجات سعادة سكان أبراج الحب من نبرات أصواتهم وأن نقرأ ما يدور داخلهم ونتعرف على رغباتهم وأحلامهم من نظراتهم، ويا لها من سعادة أن تكمل عباراتهم التى تتعثر كلماتها وحروفها خجلاً أو خوفاً أو ألماً وتمسح بيديك تلك الدموع قبل أن تنهمر، فهذه القدرات لا يملكها أى من الأبراج التى سجلت فى الموسوعات بالأكثر ارتفاعاً والأعلى تكلفة مادية فلا مجال للمنافسة أو التفوق على ما بنى بالحب وللحب.