بقلم - خديجة حمودة
اعتدنا فى صباح كل يوم التخلُّص من إحدى أوراق نتيجة الحائط أو تظليل اليوم وتاريخه وما احتواه من أحداث فى نتيجة المكتب؛ علامة على انتهائه وتخطيه والانتقال لآخر وساعات جديدة وجدول أعمال ومواعيد ولقاءات وزيارات لأماكن لم نشاهدها من قبل أو عرفناها وارتبطنا بها وتركنا فوقها علامات وكتبنا على جدرانها واخترنا لنا فيها مقعداً خاصاً وطاولة طالما اجتمعنا حولها بأشخاص ينتظروننا ويسعون لنا ويمدون أيديهم ويرسلون كلمات عبر الأثير والأحلام والغمزات والهمسات.
وفى الحقيقة أنه لا بد أن نضيف رقماً على أعمارنا كل صباح ونزيد ذكرياتنا ونغير فى مشاعرنا وتعدد مواعيدنا ونضيف لخبراتنا مواقف ومواقف، ولأن الأيام لا تعود للخلف بل تتقدم دائماً بخطوات واثقة محسوبة مقدرة قبل وصولنا لهذا العالم ففى وسط هذه التحركات تتراكم داخلنا وحولنا الذكريات وترسم فى وجوهنا خطوطاً وتضع لمسات لا ننجح فى إخفائها عن العيون الفضولية، إلا أن هناك من يمتهنون بجدارة وحرفية سرقة الذكريات والعبث بها ومحاولة محوها تماماً من حياتنا وكأنها لم تكن.
ومن أكثر المشاعر إيلاماً أن يبحث المرء داخل ذاكرته عن صور طالما أحبها وعاشها واستغرق داخل تفاصيلها وكل محتوياتها وأحب من شاركوه فيها واحتفظ بعطر أنفاسهم وملمس كلماتهم ومذاق طعامهم فلا يجدها أو يجد من يحاول الاستيلاء عليها وتحطيمها وإخفاءها عن عيونه بدعوى التطوير والتجميل والبحث عن الجديد.
فالذكريات يا سادة فيها من الإعجاز ما يحتاج إلى وقفة، وفيها من روعة الحياة ما يحتاج إلى قلب وعقل ووجدان وكينونة إنسان سوى، فبعد تخزين الذكريات والتجارب والخبرات فى المخ فى عدة مستويات تصبح الذكريات باقية بقاء الإنسان، فهناك المرحلة الأولى كما يقول أطباء علم النفس، التى يتم التخزين فيها قصير المدى ومع تكرارها وبلوغ الشخص معها النشوى أو الضيق تنتقل إلى الذاكرة طويلة المدى، التى يؤكد العلماء أنها نعمة لا بد أن نحمد الله عليها مهما بلغت معاناتنا معها عند رحيل من نحب أو عند خروجنا من تجربة حياتية جميلة أو أليمة، حيث نملك جميعاً القدرة على تخزين وترسيخ المعلومات والخبرات فيها بشكل تدريجى لأن لديها القدرة على تخزين كم هائل من الذكريات لمدة غير منتهية.
وفى أهم الأبحاث التى أعدها عالم الأعصاب (دونالد هيب)، الذى عاش من عام ١٩٠٤ حتى عام ١٩٨٥، استطاع أن يميز بين الذاكرة قصيرة المدى وطويلة المدى، ووفقاً للنظريات التى شارك فى تطبيقها فى علم الأعصاب، فإن الأشياء التى نلاحظها ونتعلق بها ونخزنها تعتمد على النشاط الكهربائى للمخ المتردد فى الدوائر العصبية، إلا أنه وللأسف يمكن تدميرها بسهولة عن طريق الانقطاع أو التدخل العنيف، حيث يرتبط ذلك بالهرمونات التى يتم إطلاقها أثناء الألم والإجهاد النفسى الذى يلعب دوراً فى تجديد الذكريات التى يتم حفظها.
وبعيداً عن العلماء والأطباء والنظريات العلمية، فإننا نعانى من عملية تدمير شامل وقاسٍ لهذا الكنز الذى وزعته علينا الأيام والأقدار بعدل سماوى لا خلاف على شفافيته، فالصور أصبحت باهتة وغريبة علينا جميعاً بعد أن فقدنا الدليل والخريطة التى رسمتها لنا الأيام والليالى بريشة شركاء الحب والحياة، فقد اقتلعوا الأشجار التى حُفرت عليها الحروف الأولى لأبطال قصص الحب والشباب، واقتلعوا المقاعد الرخامية التى شاركتنا لحظات السكينة والهدوء، وتغيرت أسماء طرق طالما كررناها وعشنا فيها وداخل مبانيها طفولة وشباباً وشاهدت أفراحنا ولحظات ميلادنا ونجاحنا، فصرنا جميعاً دون استثناء نبحث وسط الحطام والركام عن قطعة من ورق حائط اخترناه لغرفة الأحلام، ودرجات سلم كنا نختبئ أسفلها من العقاب، ونوافذ طالما نظرنا من خلفها وضحكنا وأشرنا بعلامات النجاح والحب واللقاء القريب، ولم نعد نملك الآن إلا الدعاء والرجاء والهمس (أرجوكم لا تسرقوا الذكريات).