المتفائلون يرون أن الصراع السوداني لن يطول، فلن يلبث الفرقاء أن يضعوا كفهم اليمنى على أكتاف بعضهم كالتحية التقليدية السودانية ويسامحوا، أما المتشائمون فإنهم يرون أن الصراع سيطول، وأن هدنة تُخرق تعقبها هدنة، ثم اشتباك حتى يستنزف السودان طاقته وربما يتحول البلد إلى عدد من البلدان والمناطق! بين التشاؤم والتفاؤل يبقى المجتمع الإقليمي والدولي مشدوهاً أمام العبء الجديد الذي يضاف إلى أعباء أخرى في المنطقة ما زالت تنزف.
ما إنْ اندلع إطلاق الرصاص في العاصمة السودانية في الخامس من أبريل (نيسان) الماضي، حتى أصيب كثيرون بالدهشة، كيف يمكن لمكون من رأس واحد وأصل مشترك (الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع) أن يحاربا بعضهما بعضاً، وينتقل السودان من بلد متسامح وسلمي إلى تصاعد نسبة الإجرام والقتل فيه التي تلازم المجتمعات المشوهة والمتحاربة، إلا أن المتأمل يرى أن ما يحدث في السودان هو حرب «توريث»، بمعنى أنه إرث من النظام السابق، لقد دأب النظام الإخواني/الحركي في السودان في بحر ثلاثة عقود من السلطة على «تنظيف» الجيش السوداني من المحترفين، وأحل محلهم «المحازبين» من أهل «الخطوة الإخوانية» وأصحاب «الصوابية المطلقة» الناتجة من الآيديولوجية الإخوانية، فضعفَ الجيش السوداني واستُنزفت خبراته، كما فرّخ ذلك النظام رديفاً للجيش يُستخدم ضده عند اللزوم، سمّاه «قوات الدعم السريع»، وهي قوات ليست بعيدة من ذلك الأصل صاحب اليقين المطلق.
كانت المؤشرات واضحة؛ فقد رفض «النظام الجديد» أولاً، بعد إطاحة البشير ومجموعته المقربة، أن يسلّم البشير إلى القضاء الدولي، وهو مطلوب بتهمة «الإبادة البشرية» وقُدّم لمحاكمة محلية صورية، حتى الجماهير السودانية لا تعرف أين وصل بها الأمر، كما ماطل ثانياً في تسليم السلطة إلى المدنيين.
تقاسم السلطة بعد سقوط البشير رهط من العسكر، بفرعين بدا أنهما منسجمان، ما لبث أن انقلبا أكثر من مرة على فكرة الحكم المدني، والذي وعد الانقلابيون بإقامته مسايرة للجمهور الغاضب في الشارع، ولكنهما لم يمكّناه من السلطة الحقيقية، فقد تقسّمت بين الفرعين، وشهد السودان مجموعة مناورات وتوقيع أوراق مرجعية لما يراد أن يتم سياسياً وبقيت حبراً على ورق. في غياب «المعلم» لم يعد هناك رأس لكل من الجيش و«الدعم السريع»، فقرر كل منهما أن يكون «رأساً» من خلال مزاحمة أو الإطاحة إن أمكن بالمكون الثاني.
في هذه المعادلة لا بد من الإشارة إلى فشل المكون الثالث، وهو المكون المدني والذي كان شقاقه وخلافه إحدى العقبات؛ فقد قرر كل فصيل من المكون المدني، على خلاف التسميات، على أن يتفرد بالسلطة، وهي سلطة هشة بعد الانقلاب على النظام السابق، ففشل الجميع في تكوين خيار آخر يعتمد عليه، سواء من الشعب السوداني أو من المجتمع الدولي.
الإخلال بالجيش السوداني وتفريغه من المهنيين العسكريين تحوّل مع مرور الوقت إلى أن أصبح جيشاً مؤدلجاً، والنتيجة ظاهرة للعيان، فهو حتى الآن مع مرور كل تلك الأسابيع من الصراع مع خصمه «الدعم السريع»، لم يستطع أن يحسم ساحة المعركة، والذي هو - أي ذلك الخصم - من المفترض أنه أقل عدداً وعتاداً، أو حتى يضبط الانفلات الأمني في الشارع القريب منه، كانت قيادة «الدعم السريع» تعرف ضعفه المهني، فهي فرع منه، وبالمواصفات نفسها التي بناها النظام السابق، ميليشيات تجيد حرب المدن؛ من أجل هدف أساسي صممه نظام البشير هو قمع الناس في المدن، بدأ بمدن دارفور وانتهاءً بالعاصمة؛ لذلك فإن هذا الفرع أصبح خبيراً في الكرّ والفرّ. بل في السنوات الثلاث الأخيرة، وأمام أعين النظام وربما بموافقته أصبحت له ذراع تتعاطى الشؤون الخارجية، ذلك يفسر طواف ممثل «الدعم السريع» على عدد من العواصم بمجرد بدء الاشتباكات.
الظاهرة السودانية في «أدلجة العسكر» هي تقريباً ظاهرة مكررة في الأنظمة الشمولية ذات البعد الآيديولوجي، مثال واضح آخر هو ما حدث لحزب البعث في كل من العراق وسوريا، كلا النظامين بنى جيشه على أساس آيديولوجي وليس مهنياً، فغابت المهنية وضعف الانضباط، وشاعت الزبائنية، وتفشى الفساد في أوساطه، وبدلاً من جيش مهني، أصبح جيشاً يتصدر الولاء للجماعة الحزبية اهتمام أفراده قبل الولاء للمهنية أو الوطن والتي تتطلب مصفوفة مختلفة جذرياً مما هو سائد في العقيدة العسكرية، فبدلاً من العقيدة القتالية المهنية والولاء للوطن والانضباط الصارم في التدريب والترقيات، تبدل بـ«المؤتلفة قلوبهم»، وكثير منهم يفتقد العلم والتخصص.
لقد دأبت الأنظمة القمعية على بناء هرمية في جيوشها متناقضة للهرمية الفنية والعلمية المتعارف عليها، لقد كان «الولاء» هو القيمة الكبرى وليس المهنية، ففشلت في خوض الحروب المتكررة منذ الحرب العالمية الثانية في معظم إن لم يكن كل الجبهات، كما أن شهيتها السياسية كانت عالية للانقلابات تحت شعارات زاعقة.
تلك الشهية في الاستحواذ السياسي هي في خلفية الصراع في السودان، وأي تسوية تعني تقاسم العسكر للسلطة والثروة في بلد غني بموارده فقير بقدراته في الاستفادة من تلك الموارد، ومن المؤكد أن قطاعات واسعة من الشعب السوداني تستشعر أن هذا الصراع سيطول؛ لذلك نرى زحف عشرات الآلاف منهم إلى المناطق والدول المجاورة فراراً من عصابات القتل والنهب أو القنابل العمياء التي تقع على رؤوسهم.
لن يلبث الأمر طويلاً حتى تتدخل قوى دول وقوى أخرى غير منظمة في ذلك الصراع، ومن جديد يمكن أن يصبح السودان مكاناً لتكاثر عصابات الإرهاب «المؤلفة جيوبهم» التي تعشق مثل تلك الأجواء وتتكاثر فيها. علينا أن نتذكر من جديد تلك الأشرطة التي بثتها «العربية» منذ سنوات بعد سقوط البشير وقوله في أحد الاجتماعات الموثقة إن «لديه فتوى بقتل ثلث الشعب في سبيل بقاء الثلثين»! ويبدو أن تلك الفتوى الغريبة بدأت تتحقق بعد انطلاق الرصاصة الأولى بين المتنازعين!
آخر الكلام: لقد قضت الحرب في السودان على بدايات تعافي الاقتصاد وكلفت حتى الآن مليارات الدولارات كخسارة مؤكدة للاقتصاد والأهم أن استمرارها سيشكل وباءً للجيران والعالم.