من الخطأ الفادح في السياسة أن تهوّن من قدرات عدوك، والخطأ يتضخم إن بالغت في قدرته على قهرك.
من الواضح لأي مراقب فطن أن هذه المنطقة (العربية والخليجية) لن تستقر إلا بتعاون القوى المحيطة بها من أجل تحقيق التنمية والتقدم في مسار الحضارة ومواكبة العصر، لقد شهدت المنطقة «أكثر مما تحتمل من صراعات» ساخنة وباردة، استهلكت الكثير من الطاقة المالية والتنموية، والاستقرار يبدأ من الوطن أملاً، مروراً بالإقليمي وانتهاءً بالدولي.
الأكثر سخونة في المنطقة كان «الاشتباك مع إيران» منذ الانقلاب على حكم الشاه، والمسيرة الطويلة معروفة.
اليوم تتجه المنطقة إلى نوع من «المهادنة والتي قد تقود إلى استقرار»، والإشارة هنا إلى الاتفاق السعودي - الإيراني الذي يتمنى العقلاء أن يتطور، ويقود إلى «تفاهمات» تضمن مصالح الدول والشعوب المتشاطئة والمتجاورة، ولكن هل إيران هي واحدة؟ هذا سؤال مستحق، ما نراه أن هناك إيران «الدبلوماسية»، وهناك «إيران الثورية» التي يروّج لها «الحرس الثوري» في بناء وتمويل ميليشيات في الدول المجاورة، الظاهر منها وغير الظاهر، ورغم كل خطوات إيران الدبلوماسية، ما زالت إيران «الثورية» تعمل.
مثالان فقط، فقبل زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى الرياض بأيام فقط، سمع العالم تصريح السيد حسن نصر الله «الاستفزازي» بأن «السعودية تؤلب إسرائيل على اجتياح لبنان، وتدفع ثمن ذلك»! وأخذاً بما يعرف الجميع من ارتباط بين «حزب الله» و«الحرس الثوري»، فإن الاحتمال هو محاولة «قطع الطريق» على إيران الدبلوماسية من التقدم في مسار «التفاهمات»، وعلى مقلب آخر يصرح الرئيس السوري بأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية هل ستكون «شكلية» مع تدفق مخدر الكبتاغون السام على الحدود من الدول المجاورة باتجاه دول الخليج!
إذن، نحن أمام مشهدين، مشهد منطق الدولة «وهو ليس جديداً» فقد لمسنا شيئاً منه في العصر الرفسنجاني ومن ثم في العصر الخاتمي وكلتا المحاولتين أجهضتا، تحت شعارات صارخة من ترويج «الفكر القومي والمذهبي المتشدد» و«ضرورة تصدير الثورة»، وانتهت المحاولتان بردة، بعضها قاد إلى صراع مرير واستنزاف هائل للموارد على حساب الشعوب وبخاصة الشعوب الإيرانية وأيضاً بعض العربية، كما حدث في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وهذه هي المحاولة الثالثة لجنوح إيران إلى الدولة الطبيعية.
يعلمنا تاريخ الثورات الحديثة أنها تمر بمرحلة «المراهقة الثورية»، ولكن إن طالت هذه الفترة، فإنها تقود في الغالب إلى حرب أهلية، ويبدو أن المراهَقة الثورية الإيرانية، بسبب الزمن والتجارب، قد طالت أكثر من اللازم وأصبح الحديث عن نقد التجربة في الداخل الإيراني حديثاً موجوداً وربما مسموعاً من بعض الشرائح.
لنقرأ بعض ما يأتي من هناك، فمعهد «رصانه» وهو معهد بحثي مستقل بدأ عمله في عام 2016 في الرياض لمراقبة التوجهات الإيرانية بشكل علمي، راكم كماً من المعلومات، ويقدم دراسات وترجمات تتسم بالموضوعية، نشر مؤخراً عدداً من ترجمات منقولة من صحف إيرانية تحمل دعوات، ليس فقط لإبطاء وتيرة الصراع في المنطقة ولكن أيضاً «لتغيير البوصلة».
فقد نشرت أخيراً صحيفة «أرمان أرموز» والمعنى الأقرب «أماني اليوم» افتتاحية بقلم الصحافي محمود صدري تحت عنوان «الدبلوماسية المحدودة» انتقد فيها موقف الحكومة الإيرانية من كل من روسيا والصين، وأن العلاقة بالدولتين تلحق ضرراً بالغاً بالمصالح القومية الإيرانية، ويذهب للقول إن «الموقف السلبي للدولتين تجاه المصالح القومية الإيرانية» واضح المعالم، وأن مسايرة الدولتين تأتي من «تجار العقوبات والمرتبطين بالوكالات الأجنبية والانتهازين والجماعات الريعية، وفرض الروس والصينيين والصهاينة (كذا) وغيرهم من الوكالات الأجنبية» على إيران، هو ضد مصالحها، ويذهب الكاتب للقول: «إن المجتمعات التي أصبحت قوية في التاريخ، وتمكنت من صناعة الحضارة كانت ملتزمة بالعقلانية»، وإن «سبب انهيار الحضارات عدم التزامها بالعقلانية»، يناقش الكاتب أن الروس والصينيين مصالحهم مع دول الخليج أكثر وأكبر من المصالح مع إيران، كما أن دول الخليج قادرة على خلق الإجماع على المستوى العالمي، وأن إيران غير قادرة على ذلك؛ فإيران ليست لديها إلا القوتان الشرقيتان، والخليج لأنه في علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، منفتح على القوتين الشرقيتين، بجانب قوة الغرب، وأن هامش المناورة لديه أوسع مما لدى إيران.
فحوى هذا الكلام والذي كرر في عدد من المنشورات الإيرانية، أن «معادات إيران للغرب هي المأزق الذي دخلت فيه»، فلا المحور الشرقي بقادر على الدفاع عن مصالحها؛ لأن مصالحه مع الأخيرين أعظم، أما الآخرون فإن توازنهم العقلاني يكسبهم مواقع اقتصادية ودبلوماسية.
ضيق مساحة المناورة لدى إيران على الساحة الدولية هو ما ينتقده الكاتب، وهي دعوة صريحة للتصالح مع الغرب، من أجل مصالح إيران العليا.
كراهية المعسكر الشرقي لدى النخب الإيرانية ليست جديدة؛ فالحضارة الإسلامية - الإيرانية لها جذور في طلب الحرية الشخصية والعامة، والنموذج الشرقي «الشمولي» لا يناسب المزاج الإيراني، ومن يقرأ المحاولات الإيرانية لبناء دولة متقدمة وخالية من التعصب منذ ثورة «المشروعية» في بداية القرن العشرين، إلى التحديث الذي تم إبان العصرين البهلويين الأول والثاني، يستطيع أن يلاحظ توق النخب الإيرانية إلى دولة «عقلانية»، هذا التوق ما زال فاعلاً ومؤثراً.
أمام مشهد احتمال مغادرة إيران «المراهَقة الثورية» وهي مغادرة ليست هينة، تأتي أهمية تبني استراتيجية «النموذج البديل» في التنمية، والأخذ بوسائل العصر في الجوار الإيراني، وهو نموذج يتقدم اليوم في دول الخليج، إلا أن الأهم أن يكون هذا النموذج متسقاً بين عناصره المحلية والإقليمية، تسنده قاعدة ردع مناسبة، ويجب الانتباه إلى أن عيون النخب الإيرانية مطلة على تجربة منطقة الخليج وكانت دائماً محل مقارنة، فكلما كان النموذج البديل إنسانياً وتنموياً ناجحاً، ساهم في مغادرة إيران مرحلة «المراهَقة الثورية»، تلك هي القوة الناعمة لدى دول الخليج في المعركة الصراعية التي دامت طويلاً.
آخر الكلام: النموذج البديل يجب ألا يقتصر على طرق أوسع، وعمارات أعلى، بل أيضاً في ترقية نوعية الحياة التي تشمل الاندماج في الثقافة المعاصرة.