لن يعرف أحد على وجه اليقين مَن أحرق أوراق وصناديق التصويت العراقية، الأسبوع الماضي، في بغداد، كل ما عرفه العالم أن هناك حريقاً كبيراً شهده على شاشات التلفاز، وأخذ معه بعضاً من تلك الصناديق، وعطَّل بالتالي قرار البرلمان العراقي الذي تنتهي ولايته آخر الشهر، وهو قرار اتُّخِذ في الساعة الرابعة والعشرين، وهو إعادة فرز الأصوات يدويّاً. العراق بلد لم يهدأ منذ عقود، وتغشاه الفوضى بسبب صراع مكوناته السياسية، وأيضاً بسبب التدخل الخارجي النشط في شؤونه الداخلية. إنه يمكن أن يُوصَف بأنه مصاب بما يُعرف بـ«المرض العراقي».
الانتخابات الأخيرة التي تمّت في الثاني عشر من شهر مايو (أيار) الماضي، كانت بمثابة انتخابات الإنقاذ لدى شرائح واسعة من العراقيين، الذين سئموا الممارسات السابقة، كما أرادوا الانعتاق من الهيمنة الإيرانية، وهي أول انتخابات بعد اندحار «داعش»، وثاني انتخابات عامة بعد الانسحاب الأميركي عام 2012، ورابع انتخابات منذ سقوط نظام البعث عام 2003.
بدا للبعض أن نتائج الانتخابات الأخيرة هي البوابة لدخول العراق إلى أول جسر التعافي. في السابق تدخَّلت قوى خارجية، خصوصاً إيرانية، من أجل الدفع بحلفائها للوصول إلى المفاصل الحاكمة في الدولة العراقية، ومن ثَمّ التحكم فيها. الانتخابات الأخيرة بشَّرت بظهور تيارات معادية لأي تدخل أجنبي من الجوار أو من غيره، وقاد هذا التغيير قائمة «سائرون» التي يتزعمها رجل الدين السيد مقتدى الصدر. ولم تسر الأمور بشكل سلس، فقد ظهرت احتجاجات على النتائج، منها أن هناك تزويراً قد تم، خصوصاً في صناديق الناخبين في الخارج، وصناديق النازحين!
واتخذ البرلمان، الذي سوف تنتهي ولايته آخر شهر يونيو (حزيران) الحالي، قرارات بهذا الخصوص، منها إعادة الفرز يدويّاً، والنظر في نتائج تلك المناطق المشكوك في سير عمليات الاقتراع فيها، ومنها إعفاء كل أعضاء المفوضية الانتخابية المستقلة المشكوك في حيادها من وجهة نظرهم، واستبدال عدد من القضاة بهم. كان الرهان حتى وقت الحريق هو: هل تسمح الفترة الزمنية بإعادة الفرز، وهي أقل من شهر، أم أن البلاد سوف تدخل في مسار أزمة دستورية عصية وربما فوضى؟! كان البعض يرى أن إعادة الفرز يدويّاً ممكنة في الفرصة الزمنية المتاحة، وآخرون كانوا يستبعدون ذلك، ويتوقعون الأسوأ، إلا أن المفاجأة تمت من خلال إحراق مخازن صناديق التصويت، التي لم يعد بالإمكان عمليّاً إعادة فرزها، لأنها أصبحت رماداً.
مَن المستفيد من كل ذلك؟ كان من الواضح في المشاورات الأولية التي أعقبت الانتخابات وبعد ظهور النتائج، أن تياراً يُمكن أن يُطلَق عليه «تيار الاستقلال» والخروج من الوصاية الإيرانية، هو الذي يشكِّل الكتلة الأكبر بتحالفاته المختلفة في البرلمان الجديد، وسعت إيران جاهدة إلى تنظيم بقية المكونات السياسية الأخرى، لتشكِّل كتلة موالية لها، وتكون الأكبر في البرلمان، لأن الدستور العراقي المعمول به يقرر أن يطلب رئيس الجمهورية من الكتلة الأكبر في البرلمان تشكيل الحكومة، فإن لم تستطع فالكتلة التي تليها وهكذا... لو سارت الأمور دون معوقات، لكانت الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي الجديد هي الكتلة التي تطالب بتحرير الحكومة العراقية والعراق من النفوذ الخارجي، خصوصاً الإيراني!
طبعاً سعت القوى العراقية المتحالفة مع إيران من أجل تشكيل كتلة وازنة، تقفز إلى الحكم، إلا أنها لم تنجح في ذلك المسعى. وبعد تعطيل جزئي لنتائج الانتخاب، ثم إحراق الصناديق، دخل الجميع في نفق سياسي يصعب التكهن بنتائجه. واضح أن المستفيد الأول من التعطيل تلك القوى التي وجدت نفسها تخسر الساحة، وهي القوى التي تساندها إيران، وتساند هي المشروع الإيراني في العراق وما بعده.
من المؤكد أن العراق في مثل هذه الظروف يدخل في منطقة لا توازن كبرى، فلا القوى التي ربحت الانتخابات مُكِّنت من تشكيل حكومة تقود العراق إلى شاطئ الاستقرار، ولا البرلمان، حسب الدستور، يستطيع أن يمدد لنفسه. فالاحتمالات لا تخرج عن اثنين؛ الأول أن تُشكَّل حكومة طوارئ، والثاني أن يُشكَّل مجلس عسكري لإدارة البلاد حتى تخرج من المأزق! كل الخيارات تؤدي إلى نتيجة واحدة، هي استمرار الاضطراب في العراق، بل وربما ظهور قوى متشددة، تعيد سيرة «داعش»، وإن بأشكال مختلفة يخلق الفراغ الحكومي لها بيئة صالحة للنمو والانتشار، والأسوأ أن تنشب في العراق حرب أهلية.
لا يوجد أفق يبشِّر باحتمال التوافق على حد أدنى من الخيارات بين القوى السياسية العراقية، وهي أن تعتمد النتائج التي أُعلِنت على علاتها، ويجتمع البرلمان الجديد، وتحدد كتل الأغلبية، ويناط بها تشكيل الحكومة، هذا السيناريو الأقرب إلى إنقاذ العراق أو الإبقاء عليه فوق سطح الأزمة، إلا أنه غير مقبول من الكتل التي توالي النظام الإيراني، لأن طهران ترى أنها يجب أن تستولي على القرار العراقي المقبل، من أجل تبرير بقائها هناك بشكل رسمي (أي بطلب من الحكومة العراقية) كما تفعل في سوريا، لأن تلك الاستراتيجية هي جزء من استراتيجية أوسع، هي الوقوف، من وجهة نظر طهران، أمام الولايات المتحدة ودول كثيرة في المنطقة، تطالب طهران بتقليص وجودها غرب شط العرب، وعدم التدخل في الجوار (جزء من المطالب الـ12 التي أعلنها قبل أسابيع وزير الخارجية الأميركي).
إذن الصراع على بغداد هو أكبر من صراع قوى محلية متنافسة، هو صراع إقليمي وعالمي في الوقت نفسه، والضحية فيه الأكبر، التي تنتهك مصالحها على مذبح ذلك الصراع الشعب العراقي بكل مكوناته، فقد تم استنزاف ثروته، والتضحية بأبنائه، وسرقة مائه، وتدمير اقتصاده، وتشتيت ثلاثة أرباع سكانه، وإفقار جماهيره. هذا هو الضحية، وتلك هي «ليلى» التي ينتابها مرض شديد في بغداد، وقد لا يكون لذلك المرض دواء ناجع. وما يحدث في بغداد جزء مما يحدث في الإقليم العربي، محاولة دؤوبة لإشاعة الفوضى، وتدمير لُحمة الشعوب العربية في الدولة الوطنية، وتقسيم تلك الدولة الوطنية إلى إثنيات وفئات وقبائل ومناطق متصارعة فيما بينها. عدم استقرار العراق يؤرق الدول العربية المجاورة، فأزمة الأردن الأخيرة، جزء منها عدم الاستقرار في العراق، كما أن انشغال الخليج واستنفاد طاقته جزء منه هو عدم استقرار العراق. في نهاية المطاف، فإن الإسلام السياسي (الشيعي) كما تمثله إيران، والسنِّيّ كما تمثله القوى المتطرفة، كلاهما من منبع واحد، ويسعيان لهدف واحد، هو إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في الدولة الوطنية العربية، وهي معركة تهمّ الجميع، وسلبياتها سوف تؤثر على الإقليم قاطبة؛ فالمرض العراقي مرض معدٍ بسبب طموح إيران السياسي!
آخر الكلام: سوف تحاول إيران ما استطاعت، خصوصاً بعد الاتفاق الأميركي - الكوري الشمالي، تثبيت وتوسيع نفوذها في الجوار على أنه ورقة صالحة للتفاوض المستقبلي، كل ذلك على حساب استقرار المواطن العربي في تلك الدول!
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع