توقيت القاهرة المحلي 11:18:15 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قراءة في المشهد التونسي

  مصر اليوم -

قراءة في المشهد التونسي

بقلم: محمد الرميحي

كانت الفكرة لدى كثيرين أن تونس استثناء في مشهد العواصف الكارثية التي ألمت بالمنطقة العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين... هي ليست استثناء، بل هي الواقع الذي يثبت التشابه في النتائج وإن اختلفت التفاصيل. الاثنين الماضي ذهب التونسيون إلى صناديق الاقتراع من أجل التصويت على الدستور الجديد، وقد يسمى دستور قيس سعيد، لأن نَفَس أستاذ القانون الدستوري، الذي أصبح رئيس جمهورية، نافذ فيه. إلا أن الاستفتاء ليس نهاية المطاف، فالمخاض التونسي طويل وعسير، حيث أظهرت النتائج الأولية ضعف الإقبال على التصويت ولكنه مر، في خضم انقسام اجتماعي عسير.
اليوم أصبح معروفاً كم من الفساد ساد في نظام زين العابدين بن علي، لقد تحدث الصامتون ورؤساء الشركات، خصوصاً الأجنبية، عن الدفعات التي كانت تقدم تحت الطاولة في المشاريع التي تنفذها تلك الشركات في تونس وقتها، فقد كانت الدولة لها وكيل، والرئيس له وكيل آخر. ذلك الفساد وإن حدث الانقلاب لم يُجتث تماماً، بل جاءت مجموعات حاكمة أصبح لها مصالح متنوعة تدفعها للسكوت عن ذلك الفساد القديم، وابتكار فساد جديد أصبح موثقاً.
المشهد العام في تونس يشير إلى ثلاث حقائق أساسية، وتفيض تلك الحقائق من تونس إلى معظم المشهد العربي منذ نهاية العشرية الأولى من هذا القرن.
الحقيقة الأولى هي بعربية فصيحة فشل الإسلام الحركي في تقديم نموذج حكم مدني حديث شفاف وديمقراطي تنموي، فقد افتقد الحكم في تونس الأربعة أركان السابقة التي كانت نخبة تونس تتمنى تحقيقها.
لقد قام ذلك الحكم على شعارات، ولم يقدم أي ابتكار في ممارساته للحكم... وضع الآيديولوجيا قبل الناس في وقت يتطلب الحكم الرشيد وضع الناس قبل أي آيديولوجيات! كان همه الاستحواذ والتخطيط لحكم طويل في معظمه قمعي. صحح من خطواته في المشهد الاجتماعي عندما وجد رفاقه في الحكم في بلاد عربية أخرى من طينته وتفكيره يفشلون واحداً بعد الآخر في مصر والسودان، إلا أن توجهه السياسي لم يتغير في الجوهر، فلم تعد الدولة التونسية لكل التونسيين، بل أصبحت لبعضهم فقط، وفي الحقيقة أنها لم تكن قادرة على تقديم أفضل مما قامت به، لأن بنيتها الفكرية لا تسمح بذلك، وأي تجربة في المستقبل قائمة على الإسلام الحركي سوف تواجه بالفشل، تلك هي الطبيعة الثانية لتك الحركات بصرف النظر عن نيات الأشخاص الطيبين الذين اعتقدوا، أو بعضهم لا يزال يعتقد، أن الإسلام الحركي يمكن أن يقدم الترياق اللازم في «النهضة المرجوة»، هي سراب على الورق.
الحقيقة الثانية، وقد يكون الحديث حولها مؤلماً للبعض، أن شعوبنا كافة، إلا من رحم ربي، وهو قليل، تتوق لحكم الفرد. لقد أصيبت تونس أو نخبتها بفكرة لا يمكن زرعها في المجتمع التونسي، وهي الحكم من خلال شيء غامض ومشترك اسمه «الحكم الرئاسي البرلماني»، ونتج عن ذلك في الواقع ثلاثة رؤوس للدولة التونسية؛ البرلمان ورئيسه! والحكومة ورئيسها، ورئيس الدولة (الجمهورية) الذي هو رئيس بلا سلطات تقريباً. ونشأ من هذه الترويكا مجموعة من المشكلات منها أن رئيس البرلمان بدأ يتصرف بالتوازي مع وزير الخارجية، بل ورئيس الجمهورية؛ يستقبل السفراء ويعقد الاتفاقات ويقبل التبرعات، ورئيس حكومة له سلطة على الورق مقيدة بعدد مقاعد الأحزاب الممثلة في الوزارة، ورئيس جمهورية (جهوري) في كلامه، ومنتخب من العامة ولا سلطات له، ولكنه الملوم على الفشل الذي أصاب الدولة. حدث ذلك الصراع أمام الجمهور العام التونسي، فتوسعت أبواب الفساد وزادت أعداد المستفيدين منهم من ضرع الدولة، ووضعت أجهزة الدولة السيادية تحت إمرة ثلاثية متناقضة لم تعرفها تونس في عصرها الحديث، فضاعت البوصلة، وتراجع الاقتصاد الذي كان مزدهراً نسبياً.
يحن التونسيون إلى الرئيس الشمولي، وربما العادل نسبياً، كما في عصر المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، الذي تعودت أجيال أن تسمع أقواله كل صباح في الإذاعة التونسية (من أقوال الزعيم)، وهي دروس يومية على المستمع التونسي أن ينصت إليها باحترام قبل الذهاب إلى عمله أو مدرسته!
استبدل بالشمولي وربما العادل ثلاثية لم يهضمها المجتمع التونسي على اتساعه، بل وشهد تعطيلاً في المؤسسات ومحاصصة مسمومة، وتغييراً في الوجوه، وصراعاً في الظاهر من خلال الصناديق الانتخابية، وفي الواقع من خلال الحسابات البنكية، وبعضها ارتهن علناً إلى الخارج، ففرغت الخزينة التي أصبحت هدفاً مباشراً للقوى الجديدة، بعد أن استنزفها النظام القديم، من هنا أصبح الشعور العام التونسي يحن إلى «الشمولي العادل»، ويذكر كثيراً المجاهد الأكبر، بل وشريحة منه تذكر بن علي بشيء من الحنين! لذلك كان هناك قبول نسبي لخطوات الرئيس، ولكن يبدو أنه فشل في ضبط المواقيت!
الحقيقة الثالثة هي محصلة للحقيقتين الأولى والثانية، وهي أن الثقافة العربية السياسية لا تقبل المشاركة، أو بالأحرى لا تعرف كيف يمكن إنجاح الشراكة مع تعدد الاجتهادات، هي ثقافة سياسية شمولية (لا أريكم إلا ما أرى)، وهي مكون ثقافي يتجاوز تونس ليعم على المجتمعات العربية لولا الخوف من الخطأ المنهجي لقلت جميعها!
بالدستور الجديد لا تخرج تونس من المأزق، بل ربما توسع المأزق، وتدخل في متاهات مستقبلية، خصوصاً من خلال عوار تحصين الرئيس دستورياً، من دون آلية مساءلة أو طريقة استبداله في حالة العجز أو الخروج على الدستور. حتى لو افترضنا حسن السريرة لرئيس الدولة من يضمن سلوك خلفه! ذلك ما تتوجس منه النخب المستنيرة من التونسيين بل وحتى جيران تونس. وقد يؤسس الدستور الجديد لعودة من أراد أن يتخلص منهم قيس سعيد، «ليس حباً في علي ولكن كرهاً لمعاوية»! لقد تجاهل العمل الدستوري الجديد في تونس أهم قاعدة في كتابة العقد الاجتماعي التي تقول «إن أردنا أن نقيم عقداً اجتماعياً دائماً، فلا نحلم أن يكون خالداً، بل يُبنى من خلاله قواعد تجديده»، لأن القاعدة الاجتماعية في كل تاريخ البشرية تقول إن التغيير هو الثابت الوحيد في حياة الشعوب.
آخر الكلام:
كتب على باب ضريح الحبيب بورقيبة: «هنا يرقد باني تونس الحديثة ومحرر المرأة»... هل تتراجع الشعوب عن منجزاتها؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قراءة في المشهد التونسي قراءة في المشهد التونسي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon