توقيت القاهرة المحلي 11:36:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السودان... الخلطة السحرية للحرب الأهلية!

  مصر اليوم -

السودان الخلطة السحرية للحرب الأهلية

بقلم: محمد الرميحي

حتى لو توقف إطلاق النار، فإن الصراع الذي انفجر في عاصمة السودان، ستبقى آثاره جرحاً غائراً لدى السودانيين، سقط السودان في معضلة وجود سلاحين في دولة واحدة، وشهوة العسكر إلى الحكم.
لأسابيع في نهاية عام 2018 وبداية عام 2019 انشغل العالم بمتابعة أحداث السودان، وقتها كان مأمولاً أنه في طريقه للتخلص من حكم شمولي وقمعي اتخذ آيديولوجية دينية للحكم، وبفشل تنموي ضخم وعداء للعالم والجوار، ظنَّ كثيرون أن ذلك آخر معاناة السودان، وأنهم سوف يفيقون من العثرات! إلا أن الحراك السوداني استمر إلى يومنا هذا بين مد وجزر، مع توقيع عدد وافر من الاتفاقات التي تمزق قبل أن يصبح عليها النهار؛ لأن في السودان «هوية مأزومة» وستبقى؛ إذ النظام السابق خلق ثنائية عسكرية ظن أنها تحميه، فأصبح الشعب السوداني هو الضحية.
انفجر الصراع الساخن بين مكونين عسكريين في مجملهما هما نتاج النظام القديم، نظام عمر البشير ورهطه. فكرة تسليم الحكم في السودان إلى المدنيين هي فكرة غير واقعية، وكلما اقتربت القوى المختلفة على الاعتراف بتلك الحقيقة، كان ذلك أفضل؛ لأن المكون المدني فشل أكثر من مرة، كل فريق مدني يريد الاستحواذ دون الاعتراف بالآخر، وهي صلب المعضلة السودانية، مدنيين وعسكريين.
الشبكة الاجتماعية السودانية مهيأة كثيراً لاستقبال ذلك النوع من الفكر «المُرجئ» وسلوك التفكيك، والذي لم يترك للتنمية والتقدم والاستقرار مكاناً، وهو اليوم يسقط في نفس الشبكة من الحبائل بين المتقاتلين، فحتى رمضان لم يمنعهم من قتل بعضهم بعضاً، وبعد أن كان الاقتتال على الأطراف أصبح في العاصمة وبين المدنيين!
المرض الذي يعاني منه السودان (سوداني بامتياز) هو فشل في إقامة الدولة الحديثة، بسبب رفض الاعتراف بالتعدد (العرقي والمناطقي والاقتصادي) رغم ما يتوفر للسودان من إمكانات اقتصادية هائلة، وهو فشل في إدارة الموارد مسؤول عنه مباشرة النخب السودانية لا غير، العسكرية والمدنية معاً.
تذكرنا الإحصاءات العالمية بأن نسبة الفقر في السودان وصلت في السنوات الأخيرة إلى خمسين في المائة من السكان، وتضخماً هائلاً يصل إلى ثمانين في المائة، أما نسبة البطالة فهي تشمل ربع السكان تقريباً البالغ مجموعهم نحو أربعين مليون نسمة؛ أي إن هناك عشرة ملايين سوداني لا يجد عملاً!
موارد السودان الاقتصادية هائلة، هناك مثلاً خمسون مليون بقرة في السودان، وفي نفس الوقت شح في منتجات الألبان. في هولندا للمقارنة، خمسة ملايين بقرة، وتصدر منتجاتها إلى العالم! بلد غني بالموارد وفقير بالنخب الوطنية، رغم كل الطنين والشعارات، ترى بعض الدراسات أنه لو زُرعت أرض السودان القابلة للزراعة فقط بـ«البرسيم»، لكان دخل السودان أكبر من دخل دول الخليج من النفط.
بلاد خصبة، وأراضٍ زراعية واسعة، ومياه وفيرة، وثروة حيوانية وسمكية، وأكبر احتياطي من النحاس في العالم، وبعض مناجم الذهب... كل ذلك يقابله حكم عسكري ممزوج بآيديولوجيا فاقعة لا يصدقها إلا مريدوها.
هل هي غفلة مرضية عن آليات التحديث التي أصبحت معروفة اليوم، والتي بموجبها تتغير المجتمعات، حرمت السودان من الوصول إلى بر الأمان وسقط في بحر من التيه، الذي أوقع النخبة السودانية في مأزق طويل، وولجت البلاد نفقاً استُنزفت معه طاقات الشعب السوداني وموارده؟
انقسام السودان، وبالتالي أزماته، في جزء ليس يسيراً منها بسبب ذلك المشروع الماضوي. وقد صاحب ذلك كم من الأساطير والخرافات وُظفت في ذلك الصراع، وهي أساطير لا يقبلها عقل. لقد دخل السودان ذلك الصراع الطويل بعقل منهك، يحمل كل مظاهر الإعاقة السياسية، فخسر نصفه، وأشعل حروباً في نصفه المتبقي، وما زال بعيداً عن إبصار الحقائق.
في السودان نحو خمس وثلاثين جامعة (بعضها جامعات بالاسم فقط)، ولكن من ست الجامعات الكبرى، ثلاث فقط بها كليات لتعليم الزراعة! وهي الثروة الرئيسية في البلاد! والأكثر غرابة أن بعضها به «كليات بترول»، والبترول أصبح مع الجنوبيين! من المفارقات أنه البلد العربي السابق في التعليم الجامعي الذي بدأ مع بداية القرن العشرين تقريباً، وتعمل قيادات علمية وإدارية سودانية بنجاح في مؤسسات دولية عديدة!
العجب أن السيرة مستمرة، فقد لجأت النخبة السودانية لأساطير أخرى من جديد لتفسير ما يحدث اليوم من احتراب، على أنه «مؤامرة خارجية» تريد بالسودان شراً! وأن المطلوب من الجماهير السودانية الصبر والتصدي لتلك المؤامرة! ربما ذاك تجسيد حي لكون البعض يبصر الأشياء ولا يراها! أو الحاجة لعدم الرؤية! في السودان اليوم صواريخ ورصاص أكثر مما به من الأدوية، وشره في الحصول على المغانم حتى لو دُمرت العاصمة.
ليست هناك خلطة سرية لإدارة المجتمعات بنجاح، فتلك الخطط معروفة ومسطرة في أكثر من جزء من عالمنا. تغيير المجتمعات إلى الأفضل ممكن، وأول الشروط الاستناد إلى مُثل عليا حياتية (وليست أسطورية)، ومن خلفها إرادة حقيقية لتحقيق الخير العام، وما يتبعها من قضاء تام على الفساد، واستقلال القضاء، وإدارة علمية حصيفة، واستثمار في رأس مال بشري منتج، وقوانين حديثة وعادلة، وتبادل سلمي للسلطة، والاعتراف بالتعدد، من بين أمور أخرى يعرفها أي مشتغل في الشأن السياسي العام! كل ذلك يعرفه أهل القرار في السودان ويتجاهلونه عمداً!
اللجوء إلى العنف، كما يحدث أمامنا، ولبس ملابس «الأسود والثعالب» في الوقت نفسه، ولعب أدوار أكبر من قدرة البلد وطاقته على الاحتمال، لا تقدم حلولاً، هي فقط تخلق مشاكل، وتسارع بالانفجار الكبير وتفتيت السودان أو ما بقي منه، ولا توصله إلى مرافئ آمنة.
والتحليق في ضباب الأسطورة، أو الارتكان إلى ترويج نظرية المؤامرة أو اغتصاب السلطة بقوة المدافع... كل ذلك ليس من أحجار بناء الدولة الحديثة. قد ينجو السودان اليوم من الموجة الحالية بخروج غالب ومغلوب، ولكنه خروج مؤقت لا غير، وقد تستعاض أشكال الحكم بأخرى، وسوف تكون مؤقتة أيضاً، إلا أن الحلول «الأمنية» و«الشعاراتية» والصاروخية، لن تأخذ السودان إلى بر الأمان؛ بل سيظل السودان في هذه الريبة حتى يأتي من يفرق بوضوح بين إدارة الدولة الحديثة، وما تتطلبه من أدوات، بالتأكيد يكون فيها توفر الأدوية أكثر من توفر الرصاص.
آخر الكلام: من حِكم السودانيين: «شوكة حوت لا تخرج ولا بتفوت»!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السودان الخلطة السحرية للحرب الأهلية السودان الخلطة السحرية للحرب الأهلية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon