توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

في المسألة التركية حقائق وأوهام!

  مصر اليوم -

في المسألة التركية حقائق وأوهام

بقلم :محمد الرميحي

بزغ القرن العشرون على تجربة بدت فريدة؛ مزج سياسي ناجح بين ثقافة إسلامية وعلمانية ديمقراطية تعددية حديثة، وبدا لكثيرين أن هذه التوليفة هي التي يجب أن تسود، بديلاً عن الشطط والتشدد والقمع في أماكن أخرى في الشرق الأوسط. النجاح التركي الاقتصادي وقتها أسنده بعضهم إلى السياسة التي تبناها توركوت أوزال (التركي - الكردي)، رئيس الجمهورية التركية (1989-1993)، الذي كان رئيساً للوزراء منذ 1983. والمسطرة التي تبناها كانت بسيطة: الهدف هو الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة، والطريق إلى ذلك هو تبني ما أمكن القوانين الحديثة المطبقة هناك، وأيضاً في الصناعة والخدمات تبني مسطرة المقاييس والشروط المطبقة في الاتحاد، وفي السياسة تبني الديمقراطية التعددية؛ بدأت تركيا بهذه الثلاثية في الإقلاع السياسي والتنموي، وجاء حزب العدالة والتنمية الذي بدا معتدلاً متوائماً مع القيم الجديدة، بعد فشل عدد من السوابق الحزبية الإسلامية المتشددة. وقطف الحزب كل النجاحات التي مهدت لها الحقبة الليبرالية.
وفي العشرية الأولى من القرن، حتى الدول الغربية (ومعها الولايات المتحدة) وجدت أنَّ ما يحدث في تركيا نجاح؛ تزاوج (جذور إسلامية وثقافية وتوجّه علماني في إدارة الدولة) خير من التجربة التي كانت تجري في إيران المجاورة من التشدد والعداء. بالنسبة لكثير من العرب وقتها، كانت تركيا نموذجاً محبباً، وتدفَّقت إليها مجاميع السياح، وعدد ضخم من رؤوس الأموال للاستثمار، بل كانت حتى التسمية للحزب الحاكم جاذبة في بداية العشرية الثانية، حزب العدالة والتنمية المغربي وحزب الحرية والعدالة في مصر (الإخوانية)، فيما بدا لبعضهم فقراً في الخيال السياسي يذكر بتبني كلمة «الاشتراكية» في تجارب عربية سابقة!
إلا أن الأمر لم يستمر من أجل إنضاج وتطوير التجربة، إذ دخل على الخط مزيج من الشخصانية المقيتة والفقر في الخيال السياسي. وقد تنبه عدد من المقربين إلى السيد رجب طيب إردوغان إلى بداية الخلل، وضرر محاولة الاستفراد بالسلطة؛ طار أحد رفاق إردوغان إلى بلد خليجي، في زياره رغب ألا تكون معلنة، وتوجه إلى رئيس السلطة في طلب بدا غريباً، هو استخدام -إن أمكن- علاقة الرئيس الخليجي بالسيد إردوغان للتمني عليه أن يستمع إلى معاونيه، وهو الذي كان يسير بشكل حثيث ضد نصائحهم وحكمتهم. ولكنه اعتذر للرجل بطريقة دبلوماسية، وقال إن ذلك أمر داخلي لا نرغب ولا نستطيع التدخل فيه. بعد سنوات قليلة، ترك ذلك الرجل العمل في الدولة التركية، مع عدد ممن شاركه الرأي، وبدأت تركيا تأكل من رأسمالها الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، في الداخل والخارج.
في الداخل، تخلَّص إردوغان من رفاقه القدماء (أو انفضوا من حوله)، مجموعات وأفراداً، وتوجه إلى تركيز السلطة، بدمج ما كان محرماً دمجه في كل الدساتير التركية السابقة، رئيس الحزب ورئيس الدولة ورئيس الوزراء في شخص واحد، معاكساً أحد أهم قواعد الليبرالية، وهي تعدد السلطات. وتوسعت الاعتقالات للمخالفين، وتفاقم الأمر لدى شرائح في النسيج السياسي، إلى درجة محاولة الانقلاب العسكري صيف 2016.
ولكن الرسالة لم تصل، فأوغلت الإدارة في شجار مع عدد كبير من الدول، من مصر إلى دول الخليج إلى اليونان وفرنسا وليبيا، وعدد آخر من ملفات الشجار السياسي، أو حتى العسكري، واضطربت بوصلتها فتوجهت للتسلح من الاتحاد الروسي، على خلاف ما يجب عليها بصفتها عضواً شريكاً قديماً في حلف شمال الأطلسي، وتدخلت في سوريا، تارة بالتوافق مع روسيا وتارة بالخلاف معها، وأرسلت «محاربين مرتزقة» لحرب الإخوة في ليبيا، وفرضت اتفاقات على إدارة ليبية لا تمثل كل الليبيين لترجيح مصالحها، وفتحت الباب على مصراعيه لمجموعة من المنشقين المصريين للإضرار بمصالح مصر وشعبها، وهي أول من يعلم أن برنامجهم السياسي مشوش غير قابل للتطبيق، حتى عندما كانوا في السلطة، ورجع إردوغان من زيارتهم في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 من دون حتى وداعه في المطار!
مجموعة من الأخطاء شكلت ظاهرة لتصرفات القيادة التركية الحالية؛ المواقف الأكروباتية للإدارة التركية ظهرت عند توقيع الاتفاق الإسرائيلي مع بعض دول الخليج، حيث هدَّد بسحب سفرائه من تلك الدول، في حين يُبقي على القائم بالأعمال التركي في تل أبيب! استنزفت تلك السياسات الطاقة التركية، وأفقرت الاقتصاد، وسارت على عكس ما تعلمته النخب التركية قبل قرن تقريباً، عندما قررت تحت قيادة مصطفى كمال (أتاتورك) أن تحافظ على حدودها، وتمتنع عن التدخل في شؤون الغير، وتبني تجربتها الخاصة النافعة لشعوبها بعد حروب مريرة مع الجوار؛ مشى السيد إردوغان على تلك المبادئ بالممسحة واحدة تلو أخرى! في توجه شعبوي، يقفز قفزاً من ملف إلى آخر؛ من تحويل متحف أيا صوفيا إلى مسجد عام 2020 إلى انسحاب من أحد أهم الاتفاقات الدولية الإنسانية عام 2021 التي وقعتها في إسطنبول عام 1993، منضمة إلى اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي.
الانعطاف الذي تتخذه تركيا اليوم تجاه مصر، ومنع محطات التلفزة التي تحرض ضد النظام المصري من التمادي في الشطط (الالتزام بالأخلاق المهنية)! والتوجه تودداً نحو دول الخليج الذي فجَّر في الأسبوع الماضي سيلاً من النقاش المكتوب والمسموع الذي تركز على سؤال مركزي: هل السيد إردوغان جاد في انعطافه الأخير، وقد هجر حلم العثمانية الجديدة، أم أن تلك الانعطافة تكتيكية تعتمد على قاعدة «لي ما حصلت عليه وعليكم أن تعطوني مما عندكم»؟! العاقل الذي يتابع الحراك اليومي السياسي، في الداخل التركي وفي الجوار، لا يطمئن كثيراً إلى تلك الانعطافة، فهناك استحقاقات على تركيا أن تقوم بها كي تقنع العرب أنها جادة في هجرة أحلام العثمانية الجديدة، والتعامل حسب ما تمليه الاتفاقات الدولية بين الدول.
ويبقى الأمل معلقاً في أن تتجه تركيا إلى ذلك المسار في حسن الجوار وصدق النوايا، فهناك كثير مما يمكن تحقيقه لمصالح العرب وتركيا في الوقت نفسه، ربما قائم على ما بدأ به هذا القرن من حسن الجوار وتبادل المصالح، والتنسيق في الملفات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية، فهل يفعلها إردوغان بعد غياب طويل للحكمة؟!
آخر الكلام: لا يوجد سبب مقنع لخلاف تركي - عربي غير أوهام الاستفادة من خلل مرحلي في بعض الدول العربية؛ بمجرد معالجة ذاك الخلل تسد ثغرة التدخل السلبي لأي قوة في الجوار أو ما بعده.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في المسألة التركية حقائق وأوهام في المسألة التركية حقائق وأوهام



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon