بقلم: محمد الرميحي
الكويت تعيش أعيادها هذه الأيام؛ ستون عاماً منذ الاستقلال ونصفها منذ التحرير، كما هي مناسبة للفرح وتأكيد المواطنة، إلا أنها أيضاً مناسبة تبعث الحسرة جراء ما يعتقده كثيرون من أن الكويت تراجعت في مناحٍ كثيرة عمّا كانت عليه قبل عقود. طبيعة الأمور أن الجيل الحالي غير الجيل الماضي، وشعور الأول بالحسرة هو شعور الثاني بالأمل، كما أن الشيء الثابت في المجتمعات هو التغيير.
المُطالع للصحف الكويتية وبخاصة أعمدة الكتّاب من كل الاتجاهات الليبرالية والمحافظة يشعر بأن هناك في الغالب «عدم رضا» على ما يمارَس في المشهد السياسي الكويتي، أما إذا طالعت وسائل التواصل الاجتماعي، فإن عدم الرضا يصل حتى إلى «السخط» لما تتمتع به تلك الوسائل من سقف عالٍ للتعبير وربما أيضاً لأن الكثير مما يُكتب فيها يأتي عفو اللحظة الانفعالية أو لأسباب شخصية بحتة، ولكن المحصلة لدى كثيرين أن ما هو قائم من «آليات السياسة» الحالية معطِّل إن لم يكن منفراً، لأن المجتمع لا يشعر بأنه في طريق إصلاحي واضح المعالم. ما جعل الأمر أكثر صعوبة أن يقدّم اثنان من الوزراء، على غير توقُّع، استقالتيهما الأسبوع قبل الماضي، وكانا يشغلان وزارتين سياديتين، والأسباب غير المعلنة تخرصت بها وسائل التواصل الاجتماعي، وهي كثيرة ومتشعبة، أما الأسباب المعلنة للاستقالة فهي «التعسف في استخدام الأدوات الدستورية»، وهي عبارة شديدة الأهمية وكثيفة المعنى تأتي من وزيرين في وزارتين سياديتين وأيضاً من الأسرة الحاكمة التي تضبطها في العادة تقاليد وأعراف. حتى السياسة الخارجية الكويتية، التي في معظم تاريخها أداة مهمة للعوم في هذا الفضاء السياسي في إقليم مضطرب وبعيدة عن التجاذب الداخلي، أصبحت اليوم وربما في القادم من الأيام ساحة للضرب تحت الحزام، مما يعرّض الأمن الوطني لمخاطر يكون المجتمع برمّته هو الخاسر فيها.
تراكم الممارسة السياسية الطويلة في الكويت مع الأسف لم تنتقل حتى بعد هذا الوقت الطويل من الكم إلى النوع، وهي مثلبة في آليات العمل السياسي، لا يعرف أحد على وجه اليقين أين تكمن العقبة الكبرى التي تقف أمام أحقية وضرورة التطوير ومسايرة التغيرات.
الكُتاب في الكويت، أو على الأقل كثير منهم، المراقبون للعمل السياسي قدموا اقتراحات كثيرة لما تصوروه طريق الإصلاح، ويقيني أن لدى الدولة الكثير من الاقتراحات، لعل آخر محاولة كانت من المرحوم أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد عندما شكّل لجنة موسعة كان من مهماتها النظر في آليات العمل السياسي، إلا أن ظروف الجائحة ثم مرضه حالت دون إكمال العمل ونُسيت اللجنة «كالعادة» بل حتى لم يعلَن عن حلها!
الشوائب كثيرة والتي لخصتها استقالة الوزرين، ولكنك في مراقبة العمل السياسي بسبب فردانيته وتغول الطائفية والقبيلة عليه لا تعرف مَن المعارض ومن المؤيد في الندوة البرلمانية، سرعان ما يُسمع من شخص أشد الألفاظ نقداً بل وتجريحاً في الأشخاص والمؤسسات «بعضها يعفّ لسان العاقل عن ترديدها» وفجاءة تنقلب الأمور لدى نفس الشخص إلى عكسها تماماً وليس حتى إلى منتصف الطريق. كما أن من يسمي نفسه «ًمعارضا» في الغالب يتوسل الطائفية أو القبلية دون برنامج يقطع طولياً في نسيج المجتمع يحقق الصالح العام يلتفّون حوله كمواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية.
والحال إذن ليس أمامه سوى طريقين: الأول أن يُترك الأمر على حاله بتفاعلاته السلبية الكثيرة والمعطِّلة للدولة والمجتمع وبالتأكيد هو سائر إلى مكان لا تُحمد عقباه، والآخر النظر في إصلاحات يحتاج إليها العمل السياسي، دونها لن يصلح الحال. ويحتاج الأمر إلى صيغة لتطوير عقد اجتماعي جديد يتناسب مع التطورات الاجتماعية.
وحتى لا يكون الأمر نقداً من أجل النقد، وجب النظر بإيجابية في حدود الممكن، فإن دستور الكويت في الشكل العام ما زال صالحاً للعمل، وكل تجارب العالم من دون إزعاج القارئ بالتفاصيل، قد قامت بين وقت وآخر برفد دساتيرها بقواعد تساير حاجات المجتمع، يرى البعض في الكويت أن تلك العملية في الوقت الحالي «المساس بالدستور» ولأسباب كثيرة، صعبة. وقد يكون ذلك، إلا أن تطوير الآليات وتفسير النصوص المساندة للدستور هو الأكثر مرونة والمقدور عليه.
لذلك فإن المقترح حزمةٌ متكاملة يساند بعضها بعضاً في تطوير الآليات المساندة للدستور، تعتمد أولاً على تغير الدوائر، وهي الآن خمسة إلى عدد أكبر يصغر فيه حجم الناخبين، يمكن أن يكون عشر دوائر أو حتى خمساً وعشرين دائرة، وثانياً أن يُنظَّم قانون يمكن أن يسمى «المنابر السياسية» إن كان لمصطلح الأحزاب سمعة غير حسنة!
تلكمُ المنابر تكون بالقانون عابرة للطوائف والقبائل والمذاهب، ويُشترط في ترخيصها أن يكون أعضاؤها «بحد أدنى من الأشخاص» ومن كل النسيج الاجتماعي، وتراقَب ميزانيتها وتتنافس سياسياً حسب برامج معلنة للجميع. أيضاً يكون انتخاب ممثليها للسُّدة البرلمانية على مرحلتين، أي لا يكون العضو فائزاً إلا بعد أن يحصل على الأغلبية النسبية لعدد الناخبين في الدائرة.
هذه الحزمة من الإصلاحات تحقق الكثير للمواطن والوطن، فهي تحقق أولاً الشمولية في التمثيل بأن يمثل العضو شريحةً واسعة من المواطنين، كما أنه مُساءل بشكل دائم من قاعدته في المنابر المنتمي إليها. كما يحقق للفرع التنفيذي «الحكومة» التعامل مع برامج وكتل انتخابية صلبة وغير متغيرة.
الممارسة القائمة هي أن هناك خمسين عضواً بعضهم يُنتخب بعدد كبير من أصوات الناخبين وآخرون بأقل من ذلك بكثير، ولا يرى الناخبُ العضوَ الذي انتخبه إلا حين موعد الانتخابات القادمة، ويكون الفرع التنفيذي أمام عدد واسع من الأجندات كثير منها شخصاني يصل في بعضه إلى الإثراء الشخصي أو حتى الفساد، في غياب عجيب وغير مبرَّر لوجود «لجنة للقيم دائمة» في لجان المجلس، حتى أصبح الاتهام بأن المكان أقرب إلى الإثراء، وكذلك الزبانية هي التفسير الأقرب لدى الجمهور العام، وأصبحت ظاهرة «نواب... القبيلة الفلانية» معطى مقبول في الفضاء السياسي! وجميعها ظواهر سلبية!
أيُّ مراقب في الكويت يرى أمام عينيه الكثير والمثير من عقبات التعطيل لخّصه تصريح الوزيرين المستقيلين: «جئنا للإنجاز والعمل ولكن الظروف (السياسية) لا تسمح بذلك»!
آخر الكلام:
الترياق هو ما يضاد عمل السم في الجسم!