بقلم :محمد الرميحي
نشر الأستاذ أحمد الصراف مقالاً الأسبوع الماضي وُزّع على نطاق واسع بعنوان «حيرة الشيعة في الكويت» ووضع مبضعه في الجرح؛ فموقف بعض المكون الشيعي في بلاد العرب ملتبس؛ لأن المشهد السياسي في المنطقة برمته ملتبس. المقال الذي دخل في حقل الألغام تحدث عن إشكالية «المسكوت عنه» وغاص في أسباب وطبيعة ذلك الانقسام، وهي وجهة نظر لم تترك دون تعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي، بل أثارت ردوداً وتعليقات آنية.
الإشكالية، أن المخاطرة في طرق هذا الموضوع لها محذوران على الأقل، الأول هو التعميم يدخل أي كاتب إلى زوايا قد لا يكون قصدها، والمخاطرة الأخرى أن بعضنا يرى جزءاً من الصورة ويُوصّفها بدقة، ولكن الصورة الأوسع هي المطلوب أن تحضر للنقاش العام، والاجتهاد أنه في الخمسين سنة الماضية ظهر على السطح مشروعان سياسيان في الشرق الأوسط، كانت لهما جذور سابقة، ولكنهما تشكلا بشكل أكثر وضوحاً في نصف القرن، الأول هو تغير سياسي لبعض فقهاء الشيعية الاثنا عشرية والدخول المباشر في العمل السياسي، أي الانتقال من الولاية الخاصة للفقيه والتي هي تقليدية إلى الولاية العامة، ومن جهة أخرى انحراف الإسلام السني إلى السياسة، وظهور مفهوم «الحاكمية» لدى جماعات الإسلام الحركي. في الحالين وجد المشروعان من يعتنقهما ويسعى إلى توسيع رقعة المناصرين، وفي الحالين هما مشروعان انقلابيان يحملان مشروعاً سياسياً - اجتماعياً نكوصياً لا مكان له في التطور العالمي المعاش. يرى الصراف، أن «المكون الشيعي الكويتي يعود بأصوله إلى الحواضر المجاورة... وكان بحكم الطبيعة في طريقه إلى الانصهار مع بقية مكونات المجتمع، إلا أن تبني الثورة الإيرانية لفكرة تصدير الثورة غيّر من اتجاهات البعض»، ويرى أن الإسلام السني في غمرة حماسه لطرد القوات السوفياتية من أفغانستان، وجّه سهامه لمحاربة المذاهب الأخرى فحدث ذلك الصراع «السياسي في القاع» و«المذهبي على السطح» بين المكونين، يفسر الصراف بعضاً من المشكلة بالقول «يشتكي الشيعي بشكل عام في المنطقة من عدم ثقة السلطات بحقيقة ولائه، عدم الثقة دفع بقلة منهم للجوء إلى أطراف أخرى والولاء لها»، قد يكون التفسير مقنعاً، ولكنه يطرح سؤالاً: لماذا بعض السنّة في بعض الدول تلقي بحبل ولائها إلى الخارج أيضاً، فهي ليست أقلية ولا مكاناً للشك في ولائها نظرياً؟!
مسّ الكاتب الحقيقة عندما أشار إلى مسؤولية الدولة ومسؤولية المواطن في التصدي لتلك الظاهرة، وهذا جانب أساسي في المعضلة التي تواجه المجتمع اليوم، إلا أن الغائب هو ما يعرف «بالهندسة الاجتماعية»، أي وجود مشروع سياسي للدولة الوطنية يتسم بالواقعية والمأسسة، مع خطط للتنفيذ وقواعد قانونية عادلة، ولكنه أمر يسهل قوله ويصعب تنفيذه لأسباب عدة، على رأسها أن السياسي هو «ابن يومه» مع فقر في التصور وقصور في النُفس، مع صورة ذهنية متجذرة لدى المتعصبين كل ضد الآخر، وهي صورة تحتاج إلى جهد لتغييرها.
الموضوع برمته يحتاج إلى نقاش، على رأسه الفصل بين «المذهبي» و«السياسي» فليس المطلوب أن يغير المنتمي إلى الطائفة الشيعية الكريمة المذهب الذي ينتمي إليه، ولا العكس، بل المطلوب فصل السياسة عن المذهب والتعامل بالمنطق العقلاني في دولة مدنية يدين لها الجميع بالولاء، تقوم كل الشرائح فيها بالسعي السلمي لتحقيق الخير العام. لنأخذ المشروع الإيراني الذي نعرف اليوم مكامن قوته المحدودة ومكان ضعفه الكبير، فهو لم يقدم «المنّ والسلوى» لأهله، يكفينا نشاهد من ضنك اقتصادي وتدنٍ للحريات من بين أمور كثيرة أخرى، فلا يستطيع شخص سوي أن يتمنى العيش تحت ظله وإكراهاته، فهو مشروع غير قابل للتبني. في المقابل، فإن ما يتمتع به المواطن في الضفة الأخرى، حتى لو كان هناك ملاحظات تحتاج إلى تقويم، إلا أن الفارق كبير في ملفات العيش والحريات والسوية التنموية، عدا أن هناك أغلبية لا ترغب في فرض ذلك المشروع عليها من الجانبين السني والشيعي على حد سواء. لا هو ولا مشروع الحاكمية، وتجربة السودان الطويلة والفترة القصيرة في مصر وغيرها تؤكد ذلك، أي جلب الفقر والقمع معاً لم تطاقا، لا من المجتمع السوداني ولا المصري. المخرَج هو السعي بجد وبمثابرة للمطالبة بالدولة المدنية الحديثة والعادلة، التي يتساوى فيها المواطنون. الواقع، أن الوصول إلى ذلك المثال هو تمنٍ، فلا وجود عملياً له، إلا أن الاقتراب منه ممكن.
تُرى ماذا يمنع التوجه إلى ذلك التفكير؟ أي التحرر من الإكراهات المذهبية – المسيسة؛ ما يمنع مجموعة متراكمة ومعقدة من العوامل، وفي محاولة تفكيكها يظهر التسييس أولها، فهناك مجموعات وأشخاص يقومون بتضخيم «المخاوف» من الآخر تكسباً لمناصرة الأتباع وحصر المنافع من خلالهم لإكثار حجم المناصرين، أو مناكفة لواقع، ويغلب ثانياً عامل التجهيل بأدواته المختلفة على تجذير وتضخيم المظلومية، باستدعاء مقولات ونصوص قيلت في أزمنة صراع أخرى، وهي أزمنة كثيفة الضبابية واعتبار تلك المقولات من أسس الاعتقاد المذهبي، أما العامل الثالث فهو تجاهل المجتمع الإشكالية برمتها وعدم أخذها إلى سطح النقاش المسؤول في منتديات النخب، فالأكثر سلوكاً هو الذهاب إلى طريق السلامة وكنس المشكلة برمتها تحت سجاد المجاملة.
هل الصورة قاتمة إلى ذلك الحد؟ ليست كذلك؛ فالتعليم، وإن كان هناك ملاحظات عليه، والاحتكاك بالآخر في المجتمعات الخليجية، والتفاعل مع منتجات الحضارة السائدة عوامل ذوبت الكثير من المواقف المتشنجة، إلا أن الأغلبية القابلة بالعيش المشترك والمساواة لم تستطع أن تجهر برأيها في كلا الجانبين؛ لأن الأقلية الفاعلة هي الأعلى صوتاً والقادرة على إثارة مشاعر العامة؛ لذلك فإن أصوات الأغلبية ورأيها يختفي، إما بعداً عن المناكفة أو حرصاً على عدم الدخول في مياه غير صحية والتفسير الأعوج للرأي. من جهة أخرى، فإن مناقشة المخاوف بشكل عقلاني قد توصلنا إلى أول جسر التوافق والحفاظ على الأوطان، وقد وضعنا الصراف على السكة، أما الفكر الانقلابي والإلحاق بالآخر، أياً كان، فإن أغلبية ترفضه.
آخر الكلام:
تنصب السلطة الإيرانية فخ الانتماء المذهبي للإيقاع بمكون وطني تحت ذرائع هشة، ودفعه للانشقاق عن مواطنيه ووطنه، وبذلك تخرب الأوطان ويخسر الجميع دون رابح، لبنان مثالاً.