بقلم: محمد الرميحي
كان هذا عنوان كتابي الذي صدر قبل نصف قرن تقريباً. كان مناجاة للمستقبل وتمنيات لجيل كامل أن يستفاد من المرحلة النفطية من خلال الاستثمار في البشر. بعد خمسة عقود تحقق كثير من الحلم، ليس كاملاً ولكن في طريقه إلى الاكتمال. نتائج القمة الثانية والأربعين التي عقدت في الرياض الثلاثاء الماضي شاهد حي على أن الطريق أصبح ممهداً، ولكنه أيضاً ليس من دون عقبات.
أبدأ بمصابيح الإضاءة على الطريق والتي أضيئت مؤخراً، وهي عدد من الاتفاقيات الاقتصادية التي وقعها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع عدد من دول الخليج في جولته الأخيرة، جلها استثمار في مشروعات تنموية، وأيضاً جلها بين نشطاء القطاع الخاص أو المشترك في تلك الدول، هذا يعني إشراك الناس وتوسيع السوق في آنٍ واحد. في ميزانيات دول مجلس التعاون بشكل عام المكون غير النفطي فيها لافت، وخاصة من نسبة المكون النفطي قبل سنوات، مما يعني أن هناك نشاطات اقتصادية داعمة خارج النفط، وهي نشاطات حديثة من بينها الصناعة التحويلية والخدمات، وأيضاً السياحة الثقافية، والأخيرة لها معنى يفوق الاقتصادي ليصل إلى الحضاري والإنساني معاً. ما ينفق من ميزانيات على المكون الاجتماعي في ميزانيات دول الخليج لافت، هنا يجب أن نتوقف، فما زالت بعض دول الخليج تحتاج إلى زيارة ملحة لقطاع التعليم والتدريب من أجل تجويده وترقيته، وهو النظام الذي يتوجب أن يركز بدقة على إصلاحه من الجذور، أي من السنوات الأولى للتعليم.
مهدت جولة الأمير محمد بن سلمان قبيل القمة إلى أمل جديد ليس فقط في جانبها الاقتصادي وهو مهم، ولكن الأهم لقطاع واسع من أبناء الخليج، لجانبها الاستراتيجي، فكل تلك الإنجازات الاقتصادية والتنموية قد تكون مهددة من شدة الاضطراب في الجوار وعلى الأخص التغول من النظام الإيراني وطموحه غير المبرر في التوسع، وهو ملف حتى الساعة لا يبدو أن له نهاية عقلانية لا على المستوى الإقليمي ولا على المستوى الدولي، لذلك فإن التهيؤ والتحوط لأي تغيرات من حسن الفطن، وهي تغيرات تنبئ بتدهور قد يقود إلى صدام، فالجيرة السياسية للخليج غير مريحة وصعبة التنبؤ بما سوف تؤول إليه الأحداث، وقد حققت جولة ولي العهد السعودي هذا التحوط من خلال توحيد الرؤى تجاه التهديدات الشاخصة، وهي الأكثر خطورة على الدول الأصغر، لذلك من المهم بناء صف متماسك يقلل من الاختلاف في القضايا الصغيرة التي يراها بعض أبناء الخليج ثانوية، والتركيز على القضايا المشتركة ذات المصالح الحيوية والاستعداد للدفاع عن الخليج واستقراراه.. ذلك لن يتحقق إذا اعتقد أي مكون أنه سيكون بعيداً عن العاصفة إن هبت!
وفي قراءة للبيان الختامي للقمة الثانية والأربعين (بيان الرياض) تتضح الأولويات؛ وهي أمن المنطقة ذو الأولوية المطلقة، والذي أشار البيان إلى أنه أمن لا يتجزأ، كما طالب المجتمعون بأن يكون لدول المجلس مشاركة في نقاش الملف النووي الإيراني الدائر بين الدول الكبرى والذي قد يدخل منه التهديد للأمن. كما عرج البيان على الملف الاقتصادي لضرورة استكمال مقومات الوحدة الاقتصادية، وهو ملف تمت فيه خطوات مشهودة، كما أن البعد الاجتماعي كان له حيز في البيان، وخاصة من حيث تمكين المرأة ومشاركتها الفعالة في التنمية، والاهتمام بالشباب من حيث التأهيل والتدريب. أيضاً لم يغفل البيان عن الإشارة إلى الإرهاب والمخدرات، وتلازمهما على أنهما حرب على دول الخليج قاطبة ومدخل للنيل من المجتمع الخليجي المفتوح.
كما لم يغفل عن الالتفات إلى أهمية الأمن الغذائي والمائي للإشارة هنا إلى مصر والسودان، كما وضع الأمن السيبراني والتحول الرقمي على صدر الأولويات، حيث إنه بوابة التقدم في العصر الذي أصبح عصراً رقمياً بامتياز.
بيان الرياض نقلة نوعية، وقد التفت إلى المتغيرات الإقليمية، وخاصة العربية؛ من اليمن إلى السودان إلى سوريا ولبنان وليبيا.
ويبدو أن الأمر قد استقر على أن تكون الرياض، بصرف النظر عن الدولة التي ترأس الاجتماع، هي المقر الدائم لعقد القمم الخليجية، وهو تطور نوعي آخر يترك الشكل الاحتفالي الذي ساد لفترة إلى الشكل العملي، وربما أحييت فكرة القمة التشاورية التي كانت تعقد في وقت ما بين القمتين الرسميتين، حيث تسارع الأحداث واحتمال أن تظهر مفاجآت على المستوى الدولي أو الإقليمي لا تخفى على المتابع الفطن، حيث تجمع غيومها في الأفق.
إذا كان التحوط تجاه التحديات الخارجية له أهمية قصوى، فإن التحديات الداخلية ليست أقل منه، ولعل الإشارة السابقة إلى التعليم والتدريب سويتها وجودتها هي القاعدة لمواجهة التحدي الداخلي والخارجي معاً، ولكن يصاحب ذلك تكوين رأي عام مستنير هو التحدي الثاني والمهم، بوجود وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة التي أصبحت تستغل من البعض عن قصد أو عن جهل ونقص في الوعي أو يستفاد منها من القوى السياسية المعادية للتشويه وقلب الحقائق، وفي بعضها تتحول إلى ساحة تراشق حتى بين الخليجيين أنفسهم وفي الوطن الواحد، وجلها أخبار مصنعة وأغلبها كاذب، وأي مراقب لما ينشر في تلك الوسائل (من الناحية السياسية والاجتماعية) يجد أن هناك كماً من الأخبار الكاذبة التي تخلق وعياً كاذباً وتشوه أولاً العلاقات بين دول الخليج، وثانياً تضعف الصف الوطني وتخترق صفوفه بالكثير من صور الاختلاق. ولعل معرفة أن جزءاً كبيراً من الاختراق الذي ترجوه القوى الإقليمية الطامحة هو خلخلة الصف الوطني وبذر نار الفتنة والوصول إلى الهشاشة الاجتماعية كي يقوم هو بنفسه بالتهام قواه وتفتيت نفسه، كما يحدث أمامنا في كل الدول التي استطاع الاختراق الإقليمي تحت ذرائع مختلفة أن يفرق الصف الوطني فتسقط الدولة.
ليس سهلاً معالجة هذا الخلل في الوعي، فقد تقدمت وسائل التضليل باستخدام التقنية الحديثة حتى أصبح من الممكن أن تشكك الإنسان في نفسه، وليس غيره فقط، تلك الثغرة تحتاج إلى بحث وتقصٍ ومراجعة من المهتمين في مجلس التعاون، من أجل تقليل شرور تلك الثغرة، وذلك بإقامة منصة أو منصات تتابع الأخبار الكاذبة وتقدم البدائل والأخبار الصحيحة، وقبل ذلك اعتماد الشفافية في مجالات العمل العام وإعلان ذلك للجمهور.
آخر الكلام:
العقد الخامس من المسيرة الخليجية ينبئ أن ما بعد قمة الرياض ليس كما قبلها؛ فقد أصبح الحفاظ والدفاع عن نجاحات التنمية هدفاً للجميع.