توقيت القاهرة المحلي 05:04:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

توفيق وُفّقت... ولكن!

  مصر اليوم -

توفيق وُفّقت ولكن

بقلم :محمد الرميحي

نشر الصديق توفيق السيف يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) مقالاً في هذه الصحيفة بعنوان «الفلسفة في المدرسة»، أثنى فيه على خطوة وزير التعليم السعودي في التوجه لإقرار منهج الفلسفة في التعليم العام؛ ولأن فضاءنا الثقافي في الغالب يفتقد الحوار والرأي والرأي الآخر؛ مما أضعف الساحة الفكرية، فميزة الحوار هي تلاقح الأفكار والإضافة أو النقد من أجل الوصول إلى الخير العام المرتجى، وهي ميزة ومظهر حضاري يثري النقاش ويدفعه إلى أفق صحي في الهواء الطلق، ويضع أمام الناس مصفوفة من الخيارات؛ من أجل ذلك أعود إلى مقال السيف، الذي هو في حد ذاته متميز ويحفل بالأفكار النيّرة؛ فقد ركز المقال على مناقشة تصريح وزير التعليم في المملكة حول اعتزام الوزارة إدراج مقرر الفلسفة والتفكير النقدي في المدارس. رحّب السيف بالفكرة، حيث تهدف الخطة إلى تعزيز الإيمان بحرية التفكير والتسامح ونبذ التعصب. ثم أردف الكاتب، أنها دعوة حقة للمجتمعات العربية كافة ومن حولها من المسلمين؛ فقد كشفت تجربة العقدين الماضيين (عندي أبعد من ذلك زمناً)، يقول كشفت عن أن معدلات التعصب والتشدد كانت عالية، وقد تراجعت قيم التسامح، وهيمنت على مناحي الحياة قيم المفاصلة والمنابذة. وثمّن السيف «الربط بين حرية التعبير والتفكير النقدي»، وانتهى بالقول إنه «يأمل أن تكون إضافة مقرر الفلسفة والتفكير النقدي إلى التعليم العام، إشارة تحذير إلى دارسي العلوم الشرعية، بل وعامة الناشطين في المجال الثقافي والتبليغ، تحذير من غروب الزمن الذي كان الناس يقبلون منهم كل قول».
في ظاهر هذا النص الذي حاولت أن ألخّصه خلل بيّن في الأولويات (إن سمح لي الصديق السيف)، وهو في عنوان المقال «الفلسفة في المدرسة»، وفي يقيني أن يكون العنوان الأوفق هو «المُدرس والمدرسة والفلسفة». لقد غاب عن النص شيئان؛ الأول الفاعل الرئيسي أو الرافعة الأساس، والآخر الزمن، فالفاعل الرئيسي ليس المنهج أو المقرر بحد ذاته، بل المُدرس، والزمن بمعنى ما يقرر اليوم يحتاج إلى زمن لإصلاح الأداة نفسها وهو المدرس، فلن يغيب الزمن الذي تمنى السيف أن يغيب على المتشددين في وقت قريب أو متوسط، فما زالت ترفده وسائل أخرى، منها الإعلام وترسب أفكار مجتمعية زادتها وسائل التواصل الاجتماعي غربة وتغريراً!
لديّ عدد من التجارب أعرضها على القارئ لبيان أهمية المُدرس كونه الرافعة الأساس، فعلى سبيل المثال قراءة مذكرات السيدة ليلى خالد، وهي لمن لا يعرف مناضلة فلسطينية منتمية إلى أحد الفصائل الفلسطينية، واشتهرت بخطفها طائرة إلى لندن في سبعينات القرن الماضي، ومن ثم إطلاق سراحها، قالت في تلك المذكرات إنها كانت مُدرسة في إحدى مدارس البنات في الكويت، وكانت عندما تدخل الفصل تقفل الباب وتتحدث لطالباتها عن «القضية الفلسطينية»! طبعاً هي كانت فخورة بما تفعل، لكن المتمعن أنها كمدرسة تجاهلت المقرر والمادة التي تدرسها وبسطت رأيها في موضوعات أخرى.
تُرى كم مدرساً يتوافق مع المنهج عندما «يقفل الفصل على طلابه»! هو ينقل لهم قناعته، الفكرة أن «المدرس» مهما أعطيته من «نصوص» هو المتحكم في «حشو العقول» لتلاميذه، وإذا كان ذلك جزئياً صحيحاً في التعليم العام، فهو أكثر صحة في التعليم الجامعي، وخاصة في العلوم الاجتماعية، وعلى الخصوص في جامعاتنا. المدرسة كما تصفها الثقافة الفرنسية «قلعة الحرية»؛ لأن المدرس مدرب على فهم والإيمان بالحرية، ويعاضده منهج متطور ومراقب مباشرة من السلطات المحلية وليس مركزياً. مجموعة متشددة أزعجت شعبها والعالم وما زالت تفعل ظهرت من «المدرسة»، تلك المجموعة اسمها «طالبان» غذيت بحكايات تحكى بلغة دينية أغلبها أساطير، فعطلت شعباً بكامله واستنزفت وما زالت جزءاً كبيراً من طاقة الشعوب حوله، من خلال ممارسة السياسة كما تعلمتها هذه الجماعات في «المدرسة» بواسطة أساتذة ماضويين.
أما تجربتي الخاصة في هذا المقام، وأستأذن بسردها، كتبت في مجلة «العربي» افتتاحية بعنوان «التسامح»، وبعد بضع سنوات استقر لدى كُتاب المناهج أن يقرروا المقالة على طلاب المرحلة النهائية في التعليم العام في الكويت وطلبت مني (أواسط العقد الماضي) أكثر من منطقة تعليمية أن أحضر من أجل نقاش الموضوع مع الطلبة والمدرسين وفي أكثر من مرة، والنص المقرر عادة ما توضع في نهايته أسئلة يجيب عنها الطالب، وفوجئت بأن النص المطبوع في كتاب الطلاب المقرر به أسئلة أولها «كيف تثبت أن الكاتب مسلم؟»! الحيرة فاجأتني، ماذا يريد واضع المقرر أن يصل إليه من هذا السؤال واسمي مطبوع على رأس المقالة ويبدأ بمحمد؟! لا بد له قصد؛ فهو إما يريد أن يوجه الطالب باتجاه، أو أنه ساذج في وضع السؤال، وأستبعد الافتراض الأخير، هنا استقر لديّ ما كنت أعرف أن العيب ليس في المقرر فقط، ولكن في المدرس وواضع المقرر، تلك اللقاءات التي تتحدث عن التسامح كشفت لي عن أن عدداً من العاملين في تدريس المواد الاجتماعية ليس لهم علاقة بالتسامح، فهم جنود عصر آخر لهم قناعات ثابتة تميل إلى التعصب أكثر من التسامح.
عدد من دول الخليج بعد أن كان مقرر الفلسفة والمنطق مقرراً للتدريس فيها انقلب هذا التوجه إلى عكسه منذ سبعينات أو ربما ثمانينات القرن الماضي التي ارتفع فيها صوت التشدد وجارتهم السلطات فتغيرت المناهج، لا يعرف أحد أسبابها الموجبة، وربما منها «الارتجالية» أو اختلاف البوصلة السياسية وليس الفكرية. عادة ما يقال المثل الأشهر، إن أخطاء الأطباء تختفي في المقابر، أما أخطاء المدرسين فتنطلق في المجتمع لعقود وأجيال وتنشر الفساد في الأرض، فالمدرس وإعداده وتدريبه له الأهمية القصوى في الحضارة الحديثة، بل إن بعض الدراسات تقول لنا إن تدهور الوعي العام في المجتمع الأميركي اليوم نتيجة مباشرة لانتشار ما يسمى «الكليات الاجتماعية» community college في ستينات القرن الماضي، والتي خفضت من مستوى التعليم وسوية المدرسين وأخرجت إلى المجتمع أخطر شريحة وهي أنصاف المتعلمين! الذين جلّهم انتخب السيد دونالد ترمب كما قال لنا أحد المتخصصين الأميركان في ندوة عامة نظمها المعهد الدبلوماسي في الكويت منذ سنوات. في عموم البلاد العربية لا المُعلم معتنى بتدريبه أو يحظى بمستوى مادي معقول، وعلينا أن نتذكر تقريراً صدر في الولايات المتحدة «أمة في خطر» 1983، والذي حذر من تدهور مستوى التعليم في الولايات المتحدة. المدرس في مدارسنا جزء من المشكلة، السؤال المركزي كيف نجعل المدرس جزءاً من الحل؟ تلك هي المشكلة يا سيد توفيق، وليست في مكان آخر!
آخر الكلام:
علينا أن نبحث عن «كيس اللكم الصحيح» في تحديد مشاكلنا وإلا فسوف نستمر عبثاً في لكم الكيس الخطأ!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

توفيق وُفّقت ولكن توفيق وُفّقت ولكن



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon