بقلم : محمد الرميحي
السموم كثيرة كما يعرفها علماء السُميات، ولكن هناك سموماً اجتماعية في استعارة للمفهوم، وربما بعضها أكثر فتكاً من السموم المعروفة، لأن الأولى تفتك بجسم الإنسان، والثانية تفتك بنسيج المجتمع وتقلل من مناعته إلى حد هدمه من الداخل. تلك السموم الاجتماعية لها اسم كودي هو (وسائل التواصل الاجتماعي)، ولكن السموم ليست مقصورة عليها، بل هي تنتشر في ثنايا كثير من وسائل التواصل بأشكالها المختلفة، الاجتماعية والعامة. يخطئ من يظن أن تلك الوسائل (مُعولمة)، هي في الواقع تخضع لشروط موضوعية، وهي (مجمل البيئة الثقافية/ الاقتصادية) التي تعمل فيها. فهي، أي تلك السموم، في الفضاء (الغربي/ الأوروبي/ الصناعي) تعمل في بيئة يمكن أن يقال عنها إنها (بيئة شبه منضبطة)، أما من يعمل منها في الفضاء (العربي/ الثقافي/ السياسي) فهي تعمل في بيئة تكتنفها الفوضى، والنتيجة أن تأثير هذه السموم، يمكن أن يعالج في البيئة الأولى، ويتعذر علاج معظمه في البيئة الثانية.
الأخبار الكاذبة ليست مفهوماً جديداً. مع الأسف بعض القادمين الجدد على المجال (الإعلامي والاتصالي) يعتقدون أن ذلك المفهوم نشأ مع حملة السيد دونالد ترمب، وانتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2016، هم أبعد عن الحقيقة، وهي أن مفهوم الأخبار الكاذبة كان لها مسميات أخرى قبل ذلك بكثير، كانت في فترة تسمى «الصحافة الصفراء» وفي فترة أخرى تسمى «التلاعب بالعقول»، ولعلي هنا أشير إلى كتابين قديمين صدرا منذ فترة ويفرقان في تاريخ النشر ربع قرن تقريباً؛ الأول هو للمؤلف هيلبرت شللير، (توفي عام 2000) والكتاب صدر عام 1973، بعنوان «إدارة العقول» وترجم إلى العربية، ونشر من خلال سلسلة المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة في الكويت عام 1999 تحت عنوان مختلف جزئياً هو «المتلاعبون بالعقول»، والكتاب متوفر على الشبكة الدولية. أما الكتاب الثاني فهو «من يدفع للمُزمر» أو «نافخ المزمار» وصدر عام 1999 ولم يترجم إلى العربية، وكان عنوانه الفرعي «وكالة المخابرات الأميركية والحرب الثقافية»، وهو رصد تفصيل كيف قامت الوكالة، إبان الحرب الباردة، بتمويل والتحكم في محتوى المنشور (صحف ومحطات تلفزيونية) الموجه إلى المعسكر الآخر. العنوانان السابقان يشيران إلى فكرة «الأخبار الكاذبة»، إنها فكرة قديمة، ولكنها انتشرت أكثر، وانتقلت من الخواص إلى (العوام - بالمعنى الاجتماعي) بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة.
الأخبار الكاذبة في الفضاء الغربي الصناعي يُتنبه إليها بسرعة نسبية، ويستجاب لها بدرجات مختلفة من أجل حصر سمومها، وتكون الاستجابة اقتصادية، وقانونية، وثقافية، تلك المضادات تفعل فعلها إلى درجة كبيرة في حصر الخسائر، الموضوع في الذهن ما كتب أخيراً وتحدث عنه كثيرون، وهو حصول شركة دراسات ودعاية «كامبريدج أناليتيكا» على معلومات من «فيسبوك» (إحدى أهم وسائل التواصل الاجتماعي) واستخدمت تلك المعلومات في الترويج لحملة السيد دونالد ترمب في الانتخابات. سرعان ما استجيب لذلك الأمر اقتصادياً، فقد سقطت أسعار أسهم «فيسبوك» في البورصة نحو 9 في المائة (الأسبوع قبل الماضي) كما استجيب لها قانونياً بمصفوفة قوانين في الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة من أجل التضييق على احتمال تسريب معلومات شخصية لطرف ثالث دون علم المواطن المشارك.
أيضاً تمت الاستجابة ثقافياً بتدهور (صدقية) «فيسبوك» لدى المشاركين، كما لم يحدث من قبل. الشركة الأم سوف تعاني كثيراً قبل أن تعود إلى (صحتها) المهنية بسبب تلك (المضادات) التي تم اتخاذها على أكثر من صعيد. ذلك في الفضاء الغربي/ الصناعي، أما في الفضاء العربي، ومع هذا الاستقطاب غير المسبوق بين عدد من المعسكرات السياسية/ الثقافية في فضائنا العربي، فإن كل تلك المضادات إما غير ممكنة في الواقع أو غير مؤثرة، لأن الفضاء العربي (الإعلامي والتواصلي) غير منظم، فكثيرون يستخدمون (الأخبار الكاذبة) وكأنها أداة شرعية لدفع وجهة نظرهم إلى العامة، في هذا المقام يزيد من صعوبة الموقف ضعف شديد في المهنية، فالإعلام بشكل عام في فضائنا العربي، هو تقريباً مهنة من لا مهنة له، وأضف إلى ذلك أن المشاركين في وسائل التواصل الاجتماعي، بعضهم يسير على طريقة (الدفع للمُزمر) أي خلق منصة للترويج إلى أخبار أو مواقف أو تشهير بأشخاص أو دول (مدفوعة الأجر) وآخرون يشاركون في العزف، إما عن جهل أو قلة خبرة أو بحث عن شهرة! ويبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي في بعض الفضاء العربي تفقد بريقها من حيث الصدقية، ففي دراسة تمت العام الماضي من قبل المجلس الوطني للإعلام في دولة الإمارات، وذكرت في أحد اللقاءات التي نظمها (منتدى الإعلام العربي) 3/ 4 أبريل (نيسان) الحالي، أن صدقية وسائل الاتصال لدى المشمولين في الدراسة هي فقط 26 في المائة لـ«فيسبوك»، و8 في المائة للصحافة المطبوعة، و30 في المائة للتلفزيون، وهي نسب كاشفة، قد تختلف في مجتمعات أخرى، ولكنها تقول لنا إن الأخبار أو الموضوعات التي توضع على تلك المنصات المختلفة، تؤخذ بكثير من الحذر من الجمهور، ولكن أي جمهور، المؤسف أن تلك الأرقام لم توضح سوية الجمهور المستطلع، إلا أننا نستطيع القول بشيء من الثقة إن (الجمهور الذي يتوفر له الاطلاع على منصات إعلامية مختلفة) يمكن أن يتوفر له شيء من المناعة في استقبال وتمحيص الأخبار (الكاذبة)، إلا أن تلك الفكرة العامة تعطلها فكرة أخرى، وهي أن المجتمعات (المستقطبة) كما هي المجتمعات العربية اليوم، يميل جمهورها إلى تصديق ما يرغب في حدوثه، ولا يتوقف كثيراً ليعرف أو يمحص الأخبار ما دامت تحقق له شيئاً من (الراحة) النفسية، في الغالب هو يصدق ما يحب ويميل إلى تكذيب ما يكره. هي ببساطة آلية نفسية، يمكن أن نرصدها لدى (المساهم) في شركة، فإن سمع أن الأسهم قد ارتفعت يصدقها دون تردد، أما إن كان الخبر أنها خسرت، يرغب في عدم التصديق أو التشكيك! الإجابة التي يتوقعها القارئ هي إجابة السؤال: ما العمل؟ مع الأسف ليس هناك أدوات يمكن الاستفادة منها في رفع كفاءة نظام المناعة الثقافي لدى الجمهور العربي، حيث لا النظام التعليمي يساعد على رفع عوامل المناعة عن طريق التفكير النقدي، ولا النظام السياسي يفعل ذلك عن طريق تقنين واعٍ للحريات، ولا النظام الاجتماعي بقادر على رفع نسبة المناعة عن طرق تحديد حديث لقيم الأفضلية والتميز، ولا النظام الاقتصادي بقادر على خلق كفاءة إنتاج وخفض كفاءة الاستهلاك. أمام هذه المعضلة الثلاثية سوف يبقى التضليل سيد الموقف والاستقطاب هو السائد، والعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة!!
آخر الكلام: سألني صديق، كيف تفسر انتشار البعض في وسائل التواصل الاجتماعي، قلت له مع الاحترام، انظر فيما بقي من صيت للسيدة المرحومة سامية جمال، وما بقي من سيرة وأعمال المرحوم طه حسين! أو أي شبه بهذا المثال، تعرف أن الانتشار ليس هو التأثير!
نقلاً عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع