بقلم - محمد الرميحي
مذبحة الأقباط على شواطئ سرت الليبية انكشفت فصولها، التي لطالما أنكر حدوثها عرابو الإسلام السياسي في ليبيا بشتى الطرق، رغم اعتراف «داعش» بحدوثها وتبنيه لها، ونشره فيديو عالي الجودة والإتقان السينمائي والدقة في التصوير والإخراج، واستخدام الكاميرات المتعددة بين المحمولة على الكتف وثانية على سكة ثابتة وثالثة معلقة حرة، وأخرى طائرة تم جلبها من تركيا عبر مطار معيتيقة المسيطر عليه من قبل ميليشيات الإسلام السياسي في طرابلس، وفق اعترافات المتهم هشام إبراهيم عثمان مسمح المُلقب بـ«الديناصور» الذي ينتمي لكتيبة أبو سليم وشارك في المذبحة.
جوقة من المصورين والجلادين تسوق الضحايا جراً، يحركهم جميعاً الإرهابي أبو معاذ التكريتي، الذي لعب دور المخرج لأكثر مشاهد الرعب دموية التي قد يعجز المخرج أفلام الرعب هيتشكوك عن تصور تفاصيلها، بينما الإرهابي التكريتي يطلب تمثيل المشهد دون الشروع في الذبح، وتكررت الإعادة أكثر من مرة، فظن الضحايا أن الأمر لا يعدو كونه مشهداً سينمائياً لـ«داعش»، وإذا بسكاكين جلادي «داعش» تنهال عليهم في آخر لقطة إعادة، تقطع حبال الوريد لديهم، لتسال دماؤهم وتمتزج بمياه البحر كما خطط «داعش»، وتسكت أنفاسهم، فبعد أن تم انتقاء الجلادين من «داعش» طوال القامة ضخام الجثة، متسلحين بسكاكين حادة مرتدين السواد ملثمي الوجوه كعادتهم، ألبسوا ضحاياهم الزي البرتقالي وأخضعوهم لمخدر ينهك قواهم، حتى يظهروا مستسلمين لجلاديهم، ويضفي على المشهد المؤلم قسوة تتعمد أشرطة توحش «داعش» إظهارها لقطات تظهر أيادي قاسية تذبح وتجز الرقاب دون أن ترتعش، في سادية لم يعرفها التاريخ البشري إلا في عصور الظلام، التي يحاول «داعش» بإدارته للتوحش إحياءها، بينما وقف الإرهابي أبو عامر الجزراوي «والي طرابلس» ملوحاً بحربته متحدثاً بالإنجليزية مهدداً متوعداً الأوروبيين.
لقد أدت التحريات ومن ثم التحقيقات التي قام بها مكتب النائب العام الليبي، إلى القبض على أحد الجنات الذين نفذوا المذبحة، حيث اعترف كيف ومتى وأين حدثت، وأين تم إخفاء الجثث، دون الإجابة لماذا حدثت المذبحة ضد عمال مصريين ومواطن أفريقي لا ذنب اقترفوه سوى أنهم مسيحيون جاءوا إلى ليبيا لكسب لقمة عيش بشرف كغيرهم الكثير، ولكن كعادة التنظيم لا يفصح حتى للمقربين منه عن معرفة الهدف من مذبحة طالت 21 ضحية بلا ذنب، التي ما انفك عرابو الإسلام السياسي في ليبيا وقطر وتركيا ينكرونها، وتكذيب حقيقة حدوثها وتحويلها إلى خبر «كاذب»، ولكن الحقيقة ظهرت باكتشاف جثث الضحايا، وإسدال الستار على غموض مدفنهم من اعترافات أحد المتهمين بالجريمة البشعة، التي كان الهدف منها توجيه صدمة وإحداث حالة رعب وفزع بين البيئة التي يحاول التمكن فيها، وتوجيه رسالة للأوروبيين صادمة ومفزعة، فرسالة «داعش» كانت واضحة في إظهار قوة إعلامية للتنظيم لا يمتلكها على الأرض عبر رسائل التوحش، التي تستخدم منهج هولاكو، في إحداث الرعب في القرى الصغيرة في طريق قواته المتقدمة، ليسهل عليه استسلام المدن الكبيرة بحصونها وقلاعها.
رسالة «داعش» وصلت رغم إنكار وتستربالعودة إلى المشروع الإيراني الذي ربما يرى البعض أنه عودة ثانوية في خضم التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة، والمنذرة بمخاطر كبرى، يرى كثيرون، وكاتب هذه السطور منهم، أن المشروع الإيراني هو من أهم العوامل المؤدية للاضطراب في منطقتنا، وسوف يتعاظم دوره في الأشهر المقبلة، لأنها أشهر الحسم، كما أنه يفتح على اضطرابات أكبر وأعمق في المستقبل المتوسط. بداية لا أقصد هنا بـ«المشروع الإيراني» شعوب إيران، كما بالتأكيد لا أقصد المذهبية الشيعية، ما أقصده هو «مشروع النظام الإيراني» الذي يبدو كلما زاد التحرك الداخلي الإيراني في مقاومته نوعاً وكيفاً، اعتقدت أن التمدد الخارجي ينقذ ما وصل إليه من سكة تنموية مسدودة، نتيجة ضيق اقتصادي وسياسي وقمع للحريات، ضاقت بهما الشعوب الإيرانية، وكُلما بدت السكة التنموية مسدودة، ضغط هذا المشروع في اتجاه التوسع في الجوار، تنفيساً عن ضغوط الداخل، وتحويلاً للأنظار إلى مكان آخر.
ما إن تحررت المنطقة نسبياً من الدولة الداعشية، التي أفشت الفساد، وقتلت العباد، وهدّمت المدن، حتى أصبح المشروع الإيراني التوسعي أكثر وضوحاً وتوحشاً وشهية في الاستيلاء على مقدرات الدول المحيطة. العلامات البارزة للتوسع الإيراني هي الادعاء أنها (هزمت الدولة الداعشية)! ووجب أن تأخذ مقابل ذلك بقاء طويلاً في الجوار، وهو ادعاء تجافيه الحقيقة، فمن هزم الدولة الداعشية هو تحالف دولي واسع، إلا أن تغيب الوعي، يجعل من ذلك الادعاء حقيقة لدى البعض! «حزب الله» والحشد الشعبي والحوثيون، هم علامات بارزة أخرى كأدوات للتوسع الإيراني، ولكن ليس هؤلاء كل الأدوات المتاحة لإيران، بل هناك فيلق «فاطميون» المكون أساساً من الهزارة الأفغان، وفيلق «الزينبيون»، وهم من شيعة باكستان، بجانب «حركة النجباء» و«أهل الحق» من المذهبية العلوية، وعدد آخر من المرتزقة الآتين من بلدان أخرى. كل تلك الأدوات التي تستخدمها طهران تحت قيادة «فيلق القدس» وقائده قاسم سليماني! تستخدم لتمكين المشروع الإيراني في الإطاحة بالدولة، أو إفشال احتمال قيام دولة عربية في كل من سوريا والعراق واليمن، كل تلك الأدوات تنخرط في بناء هيكلي واحد، هو ميليشيات إيران العسكرية، كما أن إدماجها تحت قيادة سليماني وفيلق القدس، تتم بشكل مدروس. فسبب قتل علي صالح، وحتى قتل عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، من أجل تنظيف الطريق أمام أي استقلالية نسبية لتلك الميليشيات عن الحرس الثوري! النموذج الأنجح الذي تعتمده طهران في توسيع نفوذها هو «حزب الله» اللبناني، وهو نموذج ربما يراد استنساخه في كل من العراق وسوريا واليمن، بجانب لبنان. أي وجود ذراع مسلحة مدعومة من طهران، وفريق سياسي يتخلل أجهزة الدولة، فيكون قادراً على معرفة مفاتيح الدولة العسكرية والأمنية، حيث لا تتحرك إلا بإمرته، خدمة للولي الفقيه! هذا ما يمكن أن يوصف بـ«الاستعمار الإيراني الجديد».
في مايو (أيار) المقبل هذا العام، سوف تجرى انتخابات عامة في كل من العراق ولبنان، وهي انتخابات سوف تخوضها قوى موالية لإيران، بكل ما تستطيع من مال وإعلام وآيديولوجيا وضغوط سياسية، من أجل الاستفادة مما يسميه الأستاذ عبد الله بشارة (البونص الديمقراطي)! أي استخدام صناديق الانتخاب للوصول إلى مفاصل الدولة العراقية واللبنانية، وربما في المستقبل السورية واليمنية، هذا (البونص الديمقراطي) لا يعني أن هناك ديمقراطية أو قريباً منها، هو يعني شكلاً خارجياً يمكن التشدق به، وإقناع الآخرين (السذج فقط) أنه موجود، فمن المرجح أن يحصد تحالف «حزب الله» وحركة أمل سبعين في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات اللبنانية، القادمة، ويتجول «حزب الله» من (دولة داخل الدولة اللبنانية) إلى (لبنان دولة داخل دولة حزب الله)! كما يحدث ذلك في العراق، حيث تمهد السبل لأغلبية مناصرة للمشروع الإيراني في انتخابات العراق، ولا يعود هناك سبب لاستخدام أدوات أخرى للانقلاب على تلك الحكومات، فهي سوف تكون ضامنة للمشروع الإيراني ومتحدثة باسمه. اليوم هناك نحو سبعة آلاف مقاتل من «حزب الله» في سوريا، وهناك الآلاف من «الزينبيون» و«الفاطميون»، بل هناك أحياء بكاملها في دمشق لا تتحدث إلا الفارسية، فضلاً عن شراء الأراضي بشكل واسع، كما أن هناك دعماً لوجيستياً لمجموعات عراقية ويمنية وحتى خليجية، تعد العدة من أجل الانقضاض على الدولة العربية من الداخل، تمهيداً للسيطرة عليها، وهناك أكثر من خمسين محطة تلفزيونية وإذاعية، تنطق بأهداف المشروع الإيراني في لبنان وحده. تلك حقيقة يعرفها اللبنانيون والسوريون واليمنيون والعراقيون، وهناك جيوب في كل تلك البلدان تقاوم هذا المد، إلا أنها جيوب تنقصها أدوات الدفاع الفعالة، في ضوء غياب المشروع البديل، كما تُسكت بالقوة أصواتها الرافضة للتحكم الإيراني، بعضها تحت شعارات مزايدة مثل (حقوق المستضعفين) وحرب (دول الاستكبار)! وهي شعارات تداعب بعض العقول التي تم الاستيلاء على قدرتها على الفهم المنطقي للأمور! وبعضها تحت التهديد المباشر. ماكينة الهوية الشيعية المقاتلة تنضب، ويلجأ النظام الإيراني إلى المال لتجنيد الفقراء في القرى، فلم يعد «حزب الله» في تجنيده انتقائياً، كما كان، بل أصبح يوظف الأقل ارتباطاً آيديولوجياً وأقل انضباطاً، فقط من أجل التغلب على الخسائر البشرية، وعليه فإن ماكينة إيران تتحول في استخدام الأذرعة، إلى ما يشبه (البلطجة)! وذلك ما يفعله الحوثي في اليمن. الهدف المباشر شرق البحر الأبيض، هو إقامة طريق «آي الله» الممتد من الأرض الإيرانية إلى البحر الأبيض، وهي طريق برية استراتيجية تقام تحسباً أن تقطع إسرائيل (في حرب قادمة) نقل السلاح عن طريق الجو! هذه الطريق يمهد لها في الأرض السورية من خلال إخلاء بعض المناطق، وإحلال الميليشيات (البلطجية) وعائلاتهم على عرض عدة كيلومترات في وسط سوريا.
البعض - واهماً - يعتقد أنه بالإمكان إقامة حوار مع النظام الإيراني، ذلك قريب إلى المستحيل، لأن القاعدة الآيديولوجية هي المتحكمة في شخوص ومؤسسات النظام، وقد تمّت أكثر من محاولة لفتح باب حوار بين مهتمين أكاديميين عرب وإيرانيين، ولو شبه مستقلين، من أجل إيجاد أرض مشتركة للفهم والتفاهم بشكل عقلاني حول القضايا المطروحة والشائكة، وما إن يستجيب الإيرانيون لفظاً في البداية، حتى يتراجعوا عن فكرة الحوار المستقل، خوفاً من «الدولة الإيرانية العميقة» التي ورثت كل أدوات شاه إيران القمعية، وأضافت عليها (كريمة آيديولوجية) تسحق الخارج عنها، فالحديث عن حريات حتى نسبية في إيران، هو الحديث المخادع الأكبر.
وعلى مقلب آخر، فإن حديث الإدارة الحالية في الولايات المتحدة لوضع حد لتوسع إيران في الجوار، ما زال حديث استهلاك لا غير، فلم تظهر حتى الآن استراتيجية متكاملة للجم الطموح الإيراني وتغلغله في دول الجوار العربي، صحيح أن الإدارة الحالية توقفت عن مد طهران بحبل سرة، كما فعلت الإدارة الأميركية السابقة، ولكنها لم تفعل الكثير. هنا تبرز أهمية التنسيق العربي بين الدول المهددة من إيران، والتي لم يصلها العطب بعد، وذلك من خلال عدد من الخطوات الجادة، منها سد الطريق على استيلاء (أزلام إيران) من الوصول إلى شرايين المؤسسات التشريعية العراقية واللبنانية من خلال (صناديق الانتخاب)، وهو احتمال ممكن، وأيضا تقديم البديل الحضاري لحكم (الفقيه)، والعمل على المستوى الدولي لفضح المشروع الإيراني، وتقديم عون معنوي وسياسي للقوى المناهضة لذلك المشروع من الإيرانيين الرافضين ذلك المشروع، الذين يتزايد عددهم في الداخل والخارج، البديل عن ذلك هو نخر الدولة العربية، وتنصيب إمعات سياسية موالية لطهران، تستعبد الشعوب وتضطهدهم لصالح أسيادهم وإقامة دولة «خلافة الفقيه» المتخيلة، وذلك يعني سنوات وسنوات من الصراع!
آخر الكلام:
على الرغم من الأصوات القادمة من طهران، أن ما يحدث من ضيق بالسياسات المتبعة داخلياً، تشبه ما صدر من أصوات قبل سقوط الشاه، فإن الهيكلية المثبتة في طهران لن تستمع إلى تلك الأصواتعرابي الإسلام السياسي عليها فترة من الزمن، إلا أن جثث الضحايا التي انتشلتها النيابة الليبية من خشوم الخيل (موقع الدفن) أسدلت الستار عن جريمة كانت لثلاث سنوات من دون جثث ومن دون طقوس دفن تحترم آدمية الضحايا.
نقلا عن الشرق الاوسط