بقلم: محمد الرميحي
هل الدول مثل البشر في صعودها وانحدارها؟ البشر عندما يتقدمون في السن، يصبحون أكثر عناداً عما كانوا في السابق ويتخذون مواقف حتى ضد مصالحهم، وربما الدول لها الخصائص نفسها وهي من طبيعة التطور للدول الكبرى أيضاً؛ ما يجعلني أذهب ذلك المذهب في المقارنة ما يشاهد ويحدث اليوم من ردات فعل للولايات المتحدة تجاه مجموعة «أوبك بلس»، والقرار الأخير لهذه المجموعة بضبط السوق النفطية من خلال تخفيض الإنتاج، وهي تصرفات وتصريحات قادمة من واشنطن غير منضبطة ولا تقوم على تأسيس عقلاني.
لنرجع قليلاً إلى الوراء، فهذه المنطقة منذ قرن تقريباً كانت محطة للتنافس بين القوى الغربية الصناعية، أولاً بسبب موقعها الجغرافي (الطريق إلى الهند)، ثم تحول الأمر إلى سبب أهم، وهو الصراع على النفط، شريان الصناعة والآلة العسكرية، وليس خافياً أن ذلك الصراع في الغالب كان بين المصالح الأميركية، والمصالح البريطانية، أو بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، وكان بعضه جلياً وبعضه الآخر «تحت الحزام»!
بعد الحرب العالمية الثانية تبين أن بريطانيا العظمى تتراجع في القوة وتصعد بدلاً منها الولايات المتحدة بمفاهيم جديدة وأفكار حديثة في قالب ليبرالي، فتقاسمت الاثنتان امتيازات النفط في الشرق الأوسط، الولايات المتحدة في «أرامكو» في المملكة العربية السعودية، وبقية مناطق النفط في الخليج وإيران والعراق للشركات البريطانية.
في الخمسينات وافقت «أرامكو» على ما عُرف وقتها بـ«تنصيف الأرباح» التي جاهدت الدولة السعودية لتحقيقه، أي أن تأخذ المملكة وهي تستعد للتطور، نصف الأرباح المحققة من قِبل الشركة، وكان لا بد من أن تُسمع تلك الخطوة في الجوار، وتطالب الدول الأخرى بمثل ما حصلت عليه المملكة من الشركات البريطانية العاملة في أراضيها، إلا أن شيخوخة السلطة البريطانية وعنجهية «الإمبراطورية» رفضت ذلك، اعتماداً على الماضي الاستعماري، ذلك العناد من الشركات البريطانية أطلق موجة من ردات الفعل الغاضبة لدى الشعوب والحكومات قادت في نهاية الأمر إلى «التأميم» كما حدث في إيران بقيادة محمد مصدق وقتها، كما تركت تلك السياسة المتعنتة آثاراً سياسية كبرى عصفت بالمنطقة.
الفكرة، أن العناد هو الذي جلب في نهاية الأمر انحسار النفوذ البريطاني، وخسارة كبرى للشركات البريطانية. طبعاً لم يحدث ذلك بين ليلة وأخرى، إنما حدث على مراحل، كان الصاعق الأساسي هو «العناد» الذي قاد للثورات في المنطقة وخسائر ضخمة وضياع فرص التطور الصحي.
يبدو أن الولايات المتحدة تمر اليوم بنفس مرحلة بريطانيا بعد الحرب العظمى الثانية، أي الدخول في مرحلة الشيخوخة «السياسية»، فقد بدا عليها أيضاً مظاهر من تلك الشيخوخة المصاحبة للكثير من العناد. من مظاهر الشيخوخة تلك الأحداث الأخيرة السياسية التي تحدث في تلك البلاد، منها أحداث 6 يناير (كانون الثاني) 2021 التي اجتاحت فيها مجموعة من الفوضويين مقر الديمقراطية الأميركية، ومنها الشخصيات القيادية التي تظهر على السطح ذات الأفق الضيق، كما في شخصيات وصلت إلى قمة الهرم القيادي مثل الرئيس الأسبق باراك أوباما، أفضل ما تستطيع أن تفعل هو لوم الآخر على فشلها، ومنذ أيام بوش الأب والتدهور القيادي في تراجع، نتيجة صعود الشعبوية ذات المصالح الآنية. بريطانيا كانت قاصمة الظهر لإمبراطوريتها حرب السويس، وقد يجد المؤرخون الأميركيون أن بداية التراجع للقوة الأميركية هي الخروج غير المنظم من أفغانستان.
اليوم تعيد الولايات المتحدة العناد من جديد بلوم المملكة العربية السعودية (وحدها دون غيرها) على أنها تقوم بمساندة روسيا الاتحادية في حربها ضد أوكرانيا! لأنها تعمل على بقاء سعر النفط موازياً لقيمة السلع المصنعة الأخرى، وتصب جام غضبها عليها (هي فقط دون غيرها) من دون أي مبرر عقلاني، وكأن الأمر هو وجوب التضحية وتحمّل المخاطر من أجل إرضاء عيون العم سام، كما بريطانيا في عصر مضى لم تعترف الإدارات الأميركية الأخيرة أن «العصر قد تغير»!
في الوقت نفسه الذي يشتكي فيه حلفاؤها في أوروبا من ارتفاع أسعار الغاز المصدر من الولايات المتحدة إلى أوروبا وتلك الشكوى أصبحت علنية في كل من فرنسا وأيضاً ألمانيا وعلى لسان قياداتهما.
لا تفسير إلا أن الإدارة الحالية وقد نفدت منها المخيّلة وربما الصبر، وتريد أن تقدم لجمهورها تفسيرات لفشلها الاقتصادي والسياسي بالإشارة إلى «الشياطين» هناك في الصحراء الذين يرفعون سعر النفط، في الوقت الذي تزخر فيه أرض الولايات المتحدة بالكثير من الموارد، ومنها النفط والتي تحتكرها شركات أميركية تكسب المليارات من الدولارات.
حرب أوكرانيا والحروب السابقة التي تدخلت فيها الولايات المتحدة وكذلك القوى الأخرى الكبيرة، لا بد أن تنتج توازناً جديداً على الساحة العالمية، كما حدث بعد الحرب العظمى الثانية، حيث اختفت أو تراجعت دول من الصدارة، وصعدت دول أخرى، وقد ساد مفهوم القطبين لفترة طويلة نسبياً، أي حلف الأطلسي الذي ولد من رحم الحرب العظمى الثانية، والاتحاد السوفياتي الذي قواه انتصاره في تلك الحرب، أما اليوم فليس من المتوقع بعد الحروب المتوسطة والصغيرة أن يعود العالم إلى إنتاج ثنائية، أي «قطبين»، في الغالب سوف يتكون في العالم الجديد، بعد أن تضع الحرب أوزارها (تعدد أقطاب) قد تبقى أميركا واحدة منهم من دون قيادة مطلقة، ولكن أيضاً الصين والهند وربما أيضاً أوروبا مستقلة عن الولايات المتحدة وأيضاً الاتحاد الروسي.
في تعدد الأقطاب المتوقع تتاح الفرصة للقوى المتوسطة، ومنها القوى العربية، أن تختار وتنحاز لمصالحها، ومع أي القوى تتعامل، فليس من العقل أن تترك هذه الدول المنتجة للموارد ثروتها الناضبة تباع بأثمان بخسة، وتعرّض شعوبها للفقر والعوز وربما للضيق والاضطراب، فقط في سبيل إرضاء حزب ما هناك كي يحصل على أصوات أكثر من جمهور يعلّي مصالحه من دون النظر لمصالح الآخرين!
لقد أدلى المختصون برأيهم الفني في أسباب الحفاظ على سعر عادل للنفط، ولكن التسييس الشعبوي هو صاحب الصوت الأعلى، إلا أن هذا التسييس سوف يقود حتماً، إذا استمر غياب الحكمة واستمر العناد، إلى ضعف قوة الولايات المتحدة في التأثير، وفقدها لأصدقاء مهمين لها وللاقتصاد العالمي، كما حدث للإمبراطورية البريطانية في السابق، من دون أن تجني إلا الخسارة.
آخر الكلام:
الانحراف نحو المصالح الضيقة والشعبوية تفقد التجربة الغربية الليبرالية «قوتها الناعمة» التي كثيراً ما أغرت بها الشعوب الأخرى!