توقيت القاهرة المحلي 23:40:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اللحية السودانية

  مصر اليوم -

اللحية السودانية

بقلم:محمد الرميحي

من أطرف ما قرأت أن صحافياً مصرياً تبع إسماعيل الأزهري، الزعيم السوداني الراحل، إلى دكان حلاق، كان ذلك في سنوات الشد والجذب بين النخب السودانية وحكم الضباط الأحرار في مصر بين عامي 1952 و1956 (سنة استقلال السودان). لاحظ الصحافي أن الأزهري بعد أن حلق الحلاق شعره، قام إلى المرآة يحلق ذقنه، فتساءل الصحافي: لماذا لم يترك عامل الصالون يحلق اللحية؟ قال الأزهري: «السوداني لا يسلم لحيته لأي أحد!»، في تعبير رمزي لتوجه النخب السودانية إلى الاستقلال رغم كل ما يربط مصر بالسودان وقتها من مصالح وتاريخ. أحداث كثيفة من اللقاء والافتراق بين النظام في مصر، ورغبة النخبة السودانية في الاستقلال عن كل من الإدارة البريطانية والمصرية شملت معظم سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. تم للسودانيين ما أرادوا، إلا أنهم لم يستطيعوا - أو على الأقل نخبهم - أن يحافظوا على وعاء سوداني شامل ويقيموا حكماً رشيداً قادراً على الاستفادة الحقيقية من موارد السودان الضخمة، لا سياسياً ولا اقتصادياً، ولا حتى استراتيجياً. للبعض، السودان مكان استراتيجي أفريقي وعربي في آن، فهو العمق الاستراتيجي لمصر، والجناح الغربي للمملكة العربية السعودية، وهو بوابة أفريقيا للعرب وبوابة الأفارقة للشمال، وأهميته لأمن البحر الأحمر لا ينازع عليها. إلا أن بعضاً آخر يرى أن السودان، بسبب ضعف شديد في إدارته، لم يستفد من ذلك الموقع ولم يوفق منذ الاستقلال - إلا في فترات قصيرة - في الاستفادة الإيجابية من قدراته الاستراتيجية وتلك الموارد الكبيرة التي يزخر بها. تبادُل التأثير والتأثر بين السودان وجيرانه في الشمال أمر تقرره أحداث التاريخ، فقليلون ربما يعرفون أن ثورة عام 1919 في مصر قد تزامنت مع مثيلة لها في السودان للأسباب نفسها، ولم تهدأ إلا بعد عودة سعد زغلول ورفاقه من المنفى، وكانت القاهرة مكان اللجوء الطبيعي لكل فريق سياسي سوداني ناله الضيم (أو هكذا اعتقد) من الفريق الآخر الشقيق الحاكم في الخرطوم. اليوم نحن نتابع أعمال المجلس العسكري الانتقالي والشد والجذب بينه وبين القوى المدنية (الحرية والتغيير)، المتابع قد يعجب من أن الاسم نفسه مر على أحداث السودان في وقت سابق منذ الاستقلال (المجلس العسكري الانتقالي)، عندما فشلت وقتها النخب السودانية مرة أخرى في بناء منظومة (ديمقراطية) حتى بدال صغيرة، من أجل وضع السودان على سكة التعافي، وربما من غرائب العمل السياسي السوداني أن يقوم رئيس وزراء على رأس حكومة المفروض أنها منتخبة (عبد الله خليل) بتسليم الحكم للعسكر، هرباً من استحقاق ديمقراطي بطرح الثقة في حكومته في مجلس نيابي منتخب! اختلطت بسرعة في سنوات ما بعد الاستقلال في السودان شهية بعض السياسيين في الانفراد بالحكم، مع شهية العسكر في القفز على السلطة، مع رغبة الأحزاب في تصفية وتهميش الآخرين (الذين لا يشبهونهم) واستعان البعض بما هو تاريخي سوداني (الإسلام الصوفي) القادم من تراث عميق من الحركات التراثية الصوفية والتي كانت متنوعة في الاجتهاد وأيضاً موالية أو معادية للحكم الوطني. استفادت القوى (الاستعمارية) أولاً من هذا الشقاق، وبعدها استفاد (الحكم الوطني) من هذا الشقاق أيضاً لتخريب مسيرة مرغوب فيها في طريق الاستقلال وبناء الدولة الحديثة من المجتمع السوداني. ولكن الأمر لم ينتهِ هنا، فقد عادت السلطات (الوطنية) لاستخدام الإسلام السياسي، المغموس بعضه في البدلة العسكرية، فتم قطع الطريق على سودان حديث يستطيع أن يستوعب (التنوع) - خاصة في الجنوب أو حتى في الشمال - أو يكمل حكماً حديثاً. وعلى الرغم من تواضع مطالب الجنوبيين في بداية الاستقلال، فقد أدى التعنت الذي واجه تلك المطالب من النخب السودانية السياسية الشمالية في البداية إلى حرب أهلية ثم إلى انفصال كما نعرف.
تلك هي متلازمة السودان في أغلب نصف القرن الماضي فيما يطلق عليه السودانيون «الدورة الخبيثة في الحكم»، يسقط نظام عسكري ليحل محله نظام حزبي تعددي ومختلف عليه بين الفرقاء، ثم يعود الأمر إلى العسكر، وهكذا تستنزف موارد السودان. وتُستهلك النخبُ في التأرجح بين خيارين؛ أولهما هو السعي للحكم وفق دستور (إسلامي)، وقد تبنى هذا الخيار تاريخياً الحزبان التقليديان؛ حزب الأمة بقيادة المهدي، والحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة الميرغني، ومعهما حزب «الإخوان المسلمين» بقيادة حسن الترابي، وثانيهما هو السعي لإقامة دولة مدنية حديثة، ويقود هذا التيار الأحزاب المدنية السودانية والقوى اليسارية والقوى المستنيرة الأخرى. أين تكمن المشكلة؟ تكمن في الثقافة السياسية لا للسودانيين وحدهم ولكن لمعظم العرب أيضاً، في تعميم، ولكنه ليس خارجاً عن السياق، وهي ثقافة تراثية غير قابلة للتآلف مع الآخر المختلف في الاجتهاد، سواء المذهبي أو الديني أو السياسي من خلال إقامة تنظيم مؤسسي حديث للدولة يعترف بالاختلاف وأيضاً يرسم طريق حل الاختلاف بوضوح على قواعد قانونية يحترمها الجميع، تلك شروط أولى للديمقراطية، حتى بدال صغيرة! أخذاً بهذا التاريخ في رفض الآخر، فإن القادم - في الغالب - في السودان لن يخرج عن المتلازمة السودانية، هي متلازمة لا تريد أن تسلم لحيتها لأحد، حتى للسوداني المختلف، فإما نظام عسكري قمعي يمهد لحروب أهلية متعددة ومتشعبة، وإما نظام (ديمقراطي) منزوع الدسم، حتى في الحقب التي تمتعت بشيء من الديمقراطية النسبية، فإن الأوليجاركية الحاكمة (حكم الأقلية) ترفض الخضوع حتى لأحكام المحكمة الدستورية في حال وجودها أو تناقضها مع مصالحها مسلمة الأمر إلى العسكر. من المهم ملاحظة أن الجمهور السوداني يرغب في الخروج من تلك المتلازمة التاريخية، ويتوق إلى انبثاق دولة قادرة على حفظ القانون (المنبثق من الناس)، فالعالم أصبح مسكوناً بتبجيل متزايد للحرية والحياة الكريمة، إلا أن نخبه تقاوم ذلك الخروج وتعمل على معادلة المنتصر والمهزوم. وبالنظر إلى ما يمر به السودان حالياً يتبين أنه صراع بين المشروعين التاريخيين؛ إذ يطرح المشروعان التغيير الجذري الذي ينشد الدولة المدنية الحديثة، والتغيير الشكلي؛ والعودة إلى النمط القديم ذاته. المشروع الجذري يجد الدعم والتأييد من القوى اليسارية القديمة ذاتها بإضافات هذه المرة من قبل بعض القوى المسلحة بمناطق الحروب الثلاث: دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، إلى جانب قوى أخرى تركت السلاح مثل حركة البجة في شرق السودان. وأصحاب مشروع التغيير الشكلي الذي يتنازعه الحنين للحكم بالدستور الإسلامي يقوده الصادق المهدي الذي لا يجد كبير مشكلة في التعامل مع النظام القديم للبشير بعد خروج عمر البشير منه وبتحالف مع العسكر. وإن مددنا نظرنا إلى المستقبل، فإنه في المدى القصير ستحدث مراوحة بين (المشاركة) و(الاستفراد) بقمة الهرم السوداني، وإن حصلت المشاركة فإن زمنها سوف يكون قصيراً، لأن الجماعة المدنية بأطرافها المختلفة لم تتفق، وربما لن تتفق، على مشروع وطني يؤسس لانتقال ديمقراطي حديث معقول ومقبول يسهل التبادل السلمي للسلطة من خلال انتخابات نزيهة وشفافة، ذلك حلم يصعب تحقيقه في الفضاء السياسي السوداني الحالي، ما سوف نراه هو مجموعة من المناورات قد يطول أمدها حتى تُستهلك قوى الجميع في تفاصيلها. ويبقى السودان فقيراً ومنقسماً لا يحلق لحيته بنفسه!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللحية السودانية اللحية السودانية



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon