بقلم:محمد الرميحي
بوفاة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، لا تجوز على الميت إلا الرحمة. إلا أن مرسي لا يمثل نفسه؛ فهو يمثل تياراً في العمل السياسي العربي مر على إنشائه وعمله في الفضاء العربي والإقليمي نحو قرن من الزمان، وهو اليوم تيار نشط له محازبوه وله مناوئوه، وكلٌّ له أدواته في النقد القاسي أو الدفاع المستميت، وأصبحت وفاة الرجل مناسَبة للخوض في تقصي الظاهرة التي تسمى بشكل عام (ظاهرة الإسلام السياسي). ولمصر - التي نشأ فيها التنظيم منذ مائة عام وتمت أحداث مأساة الرجل وجماعته في الحكم في عامي 2012/ 2013 - مكان مركزي؛ فقد تفرع من حركة «الإخوان» كثير من التشعبات التي هي إما ملاصقة أو مجاورة لها أو مختلفة عنها، إلا أن كل الأفرع - بما فيها التي اتخذت العنف مساراً لها - كانت جذورها من تلك النبتة التي نبتت في عشرينات القرن الماضي على ضفاف قناة السويس، مفجوعة بسقوط (الخلافة) ثم تمددت في بلاد عربية أخرى كثيرة. نهاية محمد مرسي المأساوية تفصح عن مأساة أعمق في التفكير السياسي العربي المرتبط - أو الذي يراد له أن يرتبط - بالتراث بشكل انتقائي، فهذا التيار المتعدد الألوان محكوم بماضيه: ماضي التنظيم وهيكليته وماضي (الأمة)، هارباً من تعقيدات الأزمة التي تواجه الأوطان بتبسيطها، ويرفض أن يرتبط بالمستقبل، وذلك لأن الارتباط بالمستقبل هو قبول الأدوات السياسية الحديثة، ومرونة في التعاطي السياسي، وتجديد في الفكر لا يمكن أن يُقبل في إطار المنهج الإخواني التقليدي، ولا تسمح الهيكلية التقليدية بالنقد الذاتي، فجل النقد الذاتي الذي حدث جاء من (الإخوان السابقين) الذين همشهم التنظيم الأم ثم عزلهم!
إذا تركنا الجزئيات إلى الكليات يصبح أمامنا عدد من المشاهد هي أربعة للتكثيف والبلورة التي يمكن أن تحدد إطار مسيرة هذا التيار على تعدد ألوانه سواء اللون العربي أو اللون التركي أو الإيراني، سواء المهادن أو العنفي.
المشهد الأول هو في هيكليته وممارسته معادٍ للديمقراطية بمعناها الشامل، أي امتناع المناقشة الداخلية الحرة في تركيبته الهيكلية، فهو يتطلب (الطاعة العمياء في المنشط والمكره!) هذا النوع من التنظيمات السياسية مخالف للطبيعة الإنسانية وخاصة الإنسان في القرن العشرين وما بعده، بعد كل هذا التطور التقني والاجتماعي والسياسي، لذلك نرى أن أكبر عدد من «الإخوان» هم (من «الإخوان» السابقين) الذين لم يستطيعوا مسايرة الشمولية القاطعة. طبيعة مثل تلك الآليات غير الديمقراطية تفرز أشخاصاً إما ضعيفي المقدرة أو انتهازيين، حتى التصفيات الداخلية (في بعض الأوقات يسمونها انتخابات) مؤطرة ومحسوبة، فهي لا تفرز عادة العنصر الأكثر ديناميكية وحيوية، بل الأكثر طاعة (للمرشد أو مكتب الإرشاد) أو (الزعيم في الحالة التركية) أو (الفقيه في الحالة الإيرانية) وتعمل بدينامية إخراج الصالح وإبقاء المطواع، وعلى الأرض نجد أن كثيرين اليوم من المراقبين المحايدين يرون أن اختيار محمد مرسي للرئاسة المصرية كان ظلماً للرجل بسبب تواضع قدراته السياسية، ولم يكن من الممكن فرز أحد لا يشابهه حيث إن آليات التنظيم - كما شرحت - لا تسمح بذلك، فلم يك مرسى قطباً بل كان محصلة، فوقع فيما وقع فيه من أخطاء سياسية أصبحت معروفة، أساسها ارتباك مخل في ثنائية «حكم المرشد أم حكم الرئيس!».
المشهد الثاني نقل التنظيم الحلقي شبه الحديدي المتصلب وغير الديمقراطي في الداخل أو فرض شعارات أجفلت قطاعات واسعة من الجمهور المصري الذي رحب به في البداية وبسرعة تم الانفضاض عنه، مثل شعار «عشيرتي» الذي استحسنه مرسي قادماً من شعارات «الإخوان»، أو إطلاق منصات إعلامية كثيرة ممتلئة بالسواد تتحدث عن المخالفين السياسيين على أنهم (كفار)، وهي تهمة لا تحتمل في مجتمع متدين كالمجتمع المصري، وعطفاً على وعود لم تُحقَّق كإعلان التنظيم في البداية أنه لن يرشح أحداً لرئاسة الجمهورية ثم نقضه هذا الوعد بعد ذلك، أو مشروع النهضة الوهمي الذي لم يتبين لأحد شكله، أو الحصول على نسبة معقولة من أعضاء مجلس الأمة ثم التحصن بين أغلبية! وقتها كتبت هنا أن («الإخوان» في مصر رغم أن كثيراً منهم من أصول فلاحية فإنه اختلط عليهم موسم الإزهار بموسم الإثمار).
المشهد الثالث طبيعة التنظيم أو الحركة أنها تقرر أن من ينتمون إليه هم (المصطفون) ولهم مواصفات تفرزهم عن بقية المجتمع، تتشكل بينهم (رابطة) تتحول إلى (رابطة دموية) من خلال المصاهرة في وقت لاحق، ويترتب على ذلك أن من هم ليسوا من «الإخوان» فهم (أعداء) أو حتى (كفار)! ويرتبط الإخواني المصري بالإخواني خارج الحدود أكثر مما يرتبط بالمواطن (المخالف المصري)، أي إنه خلط ضبابي بين دولة المصريين ودولة المسلمين! في مسار يخالف ما يسعى إليه الناس في هذا العصر وهو الدولة الوطنية المدنية، هذا القاموس السياسي الاستحواذي يتناقض مع مجتمع تعددي بطبعه وبه مكونات مختلفة، طبيعة التنظيم أيضاً لم تترك له فرصة التواؤم مع المتغيرات، فلما فوجئ بثورة المصريين في يناير (كانون الثاني) 2011 غير سريعاً بإنشاء حزب، ولفقر في التصور سمى التنظيم الحزب (الحرية والعدالة) على غرار (العدالة والتنمية) التركي، كانت تلك بشرى لمن يهيئ نفسه للخلافة في أنقرة ونكسة كبيرة للوطنية المصرية.
المشهد الرابع: نعيب على حركة الإسلام السياسي أنها تعيش في الماضي، ولذلك سوف أتحدث عن المستقبل، وحديث المستقبل يبدأ من نقد الحاضر. فبمجرد الإعلان عن وفاة مرسي انطلق الفصحاء من أهل «الإخوان» في أكثر من مكان علناً ومن خلال الذباب الإلكتروني للقول إن مشروع «الإخوان» في مصر أجهِض إما بسبب الدولة المصرية العميقة، أو بسبب تدخل دول خليجية شجعت على انقلاب على حكمه، إلى آخره من التسويغات التي تقع في إطار تبريري. إلا أن المتابع يرى بوضوح أن ذلك فيه تجاهل لما قام به المصريون أنفسهم أولاً من تنظيم حملة واسعة (تمرد) للمطالبة بتنظيم انتخابات مبكرة، وثانياً تجاهل نحو ثلاثين مليون مصري ساروا في الشوارع هاتفين (يسقط حكم المرشد)! منددين بإجراءات سياسية لا ترضيهم، دون الاعتراف حتى اليوم بما هو واضح جلي أن ركوب مركب الإسلام السياسي كما حدث في كثير من التجارب بعد سقوط حكم «الإخوان» في مصر، كمثل ما حدث في تونس والسودان مؤخراً والمأزق في تركيا وإيران، دون تلاؤم مع العصر وأجندة حديثة للدولة الوطنية، يقود في النهاية إلى ديكتاتورية شمولية تأكل ما حولها ثم تأكل نفسها. طموحات الناس في مكان والتشبث بما أفرزه السلف من أفكار في مكان آخر، مفارقة منطق العصر هي الابتعاد عن طموحات الشعوب، والحركة التي تفقد الديمقراطية في داخلها من المتعذر عليها أن توفره للخارج. نحن بانتظار جيل آخر ينقد التجربة المريرة كما تمثلت في مصر وفي غيرها ويقدم قاموساً سياسياً ومصفوفة أفكار تقرأ النص بروح العصر.
آخر الكلام: اختلاط السياسي بالديني بالاجتماعي أصبح بعده المسلم يتعبد برأي الفقهاء السياسيين، وهؤلاء يميلون إلى توسيع سلطانهم لشهوتهم في السيطرة على حياة المسلم، فضيقوا عليه أنفاسه ولم يتركوا شاردة ولا واردة إلا وكان لهم رأي (فقهي) فيها حتى أصبح المواطن أعمى وهو بصير!