توقيت القاهرة المحلي 20:21:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السودان... الخلطة السحرية للحرب الأهلية!

  مصر اليوم -

السودان الخلطة السحرية للحرب الأهلية

محمد الرميحي
بقلم : محمد الرميحي

حتى لو توقف إطلاق النار، فإن الصراع الذي انفجر في عاصمة السودان، ستبقى آثاره جرحاً غائراً لدى السودانيين، سقط السودان في معضلة وجود سلاحين في دولة واحدة، وشهوة العسكر إلى الحكم.
لأسابيع في نهاية عام 2018 وبداية عام 2019 انشغل العالم بمتابعة أحداث السودان، وقتها كان مأمولاً أنه في طريقه للتخلص من حكم شمولي وقمعي اتخذ آيديولوجية دينية للحكم، وبفشل تنموي ضخم وعداء للعالم والجوار، ظنَّ كثيرون أن ذلك آخر معاناة السودان، وأنهم سوف يفيقون من العثرات! إلا أن الحراك السوداني استمر إلى يومنا هذا بين مد وجزر، مع توقيع عدد وافر من الاتفاقات التي تمزق قبل أن يصبح عليها النهار؛ لأن في السودان «هوية مأزومة» وستبقى؛ إذ النظام السابق خلق ثنائية عسكرية ظن أنها تحميه، فأصبح الشعب السوداني هو الضحية.
انفجر الصراع الساخن بين مكونين عسكريين في مجملهما هما نتاج النظام القديم، نظام عمر البشير ورهطه. فكرة تسليم الحكم في السودان إلى المدنيين هي فكرة غير واقعية، وكلما اقتربت القوى المختلفة على الاعتراف بتلك الحقيقة، كان ذلك أفضل؛ لأن المكون المدني فشل أكثر من مرة، كل فريق مدني يريد الاستحواذ دون الاعتراف بالآخر، وهي صلب المعضلة السودانية، مدنيين وعسكريين.
الشبكة الاجتماعية السودانية مهيأة كثيراً لاستقبال ذلك النوع من الفكر «المُرجئ» وسلوك التفكيك، والذي لم يترك للتنمية والتقدم والاستقرار مكاناً، وهو اليوم يسقط في نفس الشبكة من الحبائل بين المتقاتلين، فحتى رمضان لم يمنعهم من قتل بعضهم بعضاً، وبعد أن كان الاقتتال على الأطراف أصبح في العاصمة وبين المدنيين!
المرض الذي يعاني منه السودان (سوداني بامتياز) هو فشل في إقامة الدولة الحديثة، بسبب رفض الاعتراف بالتعدد (العرقي والمناطقي والاقتصادي) رغم ما يتوفر للسودان من إمكانات اقتصادية هائلة، وهو فشل في إدارة الموارد مسؤول عنه مباشرة النخب السودانية لا غير، العسكرية والمدنية معاً.
تذكرنا الإحصاءات العالمية بأن نسبة الفقر في السودان وصلت في السنوات الأخيرة إلى خمسين في المائة من السكان، وتضخماً هائلاً يصل إلى ثمانين في المائة، أما نسبة البطالة فهي تشمل ربع السكان تقريباً البالغ مجموعهم نحو أربعين مليون نسمة؛ أي إن هناك عشرة ملايين سوداني لا يجد عملاً!
موارد السودان الاقتصادية هائلة، هناك مثلاً خمسون مليون بقرة في السودان، وفي نفس الوقت شح في منتجات الألبان. في هولندا للمقارنة، خمسة ملايين بقرة، وتصدر منتجاتها إلى العالم! بلد غني بالموارد وفقير بالنخب الوطنية، رغم كل الطنين والشعارات، ترى بعض الدراسات أنه لو زُرعت أرض السودان القابلة للزراعة فقط بـ«البرسيم»، لكان دخل السودان أكبر من دخل دول الخليج من النفط.
بلاد خصبة، وأراضٍ زراعية واسعة، ومياه وفيرة، وثروة حيوانية وسمكية، وأكبر احتياطي من النحاس في العالم، وبعض مناجم الذهب... كل ذلك يقابله حكم عسكري ممزوج بآيديولوجيا فاقعة لا يصدقها إلا مريدوها.
هل هي غفلة مرضية عن آليات التحديث التي أصبحت معروفة اليوم، والتي بموجبها تتغير المجتمعات، حرمت السودان من الوصول إلى بر الأمان وسقط في بحر من التيه، الذي أوقع النخبة السودانية في مأزق طويل، وولجت البلاد نفقاً استُنزفت معه طاقات الشعب السوداني وموارده؟
انقسام السودان، وبالتالي أزماته، في جزء ليس يسيراً منها بسبب ذلك المشروع الماضوي. وقد صاحب ذلك كم من الأساطير والخرافات وُظفت في ذلك الصراع، وهي أساطير لا يقبلها عقل. لقد دخل السودان ذلك الصراع الطويل بعقل منهك، يحمل كل مظاهر الإعاقة السياسية، فخسر نصفه، وأشعل حروباً في نصفه المتبقي، وما زال بعيداً عن إبصار الحقائق.
في السودان نحو خمس وثلاثين جامعة (بعضها جامعات بالاسم فقط)، ولكن من ست الجامعات الكبرى، ثلاث فقط بها كليات لتعليم الزراعة! وهي الثروة الرئيسية في البلاد! والأكثر غرابة أن بعضها به «كليات بترول»، والبترول أصبح مع الجنوبيين! من المفارقات أنه البلد العربي السابق في التعليم الجامعي الذي بدأ مع بداية القرن العشرين تقريباً، وتعمل قيادات علمية وإدارية سودانية بنجاح في مؤسسات دولية عديدة!
العجب أن السيرة مستمرة، فقد لجأت النخبة السودانية لأساطير أخرى من جديد لتفسير ما يحدث اليوم من احتراب، على أنه «مؤامرة خارجية» تريد بالسودان شراً! وأن المطلوب من الجماهير السودانية الصبر والتصدي لتلك المؤامرة! ربما ذاك تجسيد حي لكون البعض يبصر الأشياء ولا يراها! أو الحاجة لعدم الرؤية! في السودان اليوم صواريخ ورصاص أكثر مما به من الأدوية، وشره في الحصول على المغانم حتى لو دُمرت العاصمة.
ليست هناك خلطة سرية لإدارة المجتمعات بنجاح، فتلك الخطط معروفة ومسطرة في أكثر من جزء من عالمنا. تغيير المجتمعات إلى الأفضل ممكن، وأول الشروط الاستناد إلى مُثل عليا حياتية (وليست أسطورية)، ومن خلفها إرادة حقيقية لتحقيق الخير العام، وما يتبعها من قضاء تام على الفساد، واستقلال القضاء، وإدارة علمية حصيفة، واستثمار في رأس مال بشري منتج، وقوانين حديثة وعادلة، وتبادل سلمي للسلطة، والاعتراف بالتعدد، من بين أمور أخرى يعرفها أي مشتغل في الشأن السياسي العام! كل ذلك يعرفه أهل القرار في السودان ويتجاهلونه عمداً!
اللجوء إلى العنف، كما يحدث أمامنا، ولبس ملابس «الأسود والثعالب» في الوقت نفسه، ولعب أدوار أكبر من قدرة البلد وطاقته على الاحتمال، لا تقدم حلولاً، هي فقط تخلق مشاكل، وتسارع بالانفجار الكبير وتفتيت السودان أو ما بقي منه، ولا توصله إلى مرافئ آمنة.
والتحليق في ضباب الأسطورة، أو الارتكان إلى ترويج نظرية المؤامرة أو اغتصاب السلطة بقوة المدافع... كل ذلك ليس من أحجار بناء الدولة الحديثة. قد ينجو السودان اليوم من الموجة الحالية بخروج غالب ومغلوب، ولكنه خروج مؤقت لا غير، وقد تستعاض أشكال الحكم بأخرى، وسوف تكون مؤقتة أيضاً، إلا أن الحلول «الأمنية» و«الشعاراتية» والصاروخية، لن تأخذ السودان إلى بر الأمان؛ بل سيظل السودان في هذه الريبة حتى يأتي من يفرق بوضوح بين إدارة الدولة الحديثة، وما تتطلبه من أدوات، بالتأكيد يكون فيها توفر الأدوية أكثر من توفر الرصاص.
آخر الكلام: من حِكم السودانيين: «شوكة حوت لا تخرج ولا بتفوت»!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السودان الخلطة السحرية للحرب الأهلية السودان الخلطة السحرية للحرب الأهلية



GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon