بقلم:محمد الرميحي
أسوأ ما يمكن أن يحدث للأوطان أن يعتبرها سياسيّوها أو أكثرهم أوطاناً مؤقتة، وليست مقراً دائماً، يحمل رائحة الآباء والأجداد، وتتوسد بعد وقت أجسادُهم ترابَها، يبدو أن الظاهرة المؤقتة للمواطنة هي السمة التي تنتشر في أوطان الاضطراب العربية، وهي ليست ظاهرة مستحدثة، بل قديمة نسبياً، ربما انتشرت في فضائنا بسبب الصراع الدائم وغير المنظم على السلطة، وعدم تبلور مشروع وطني حديث.
يتمظهر هذا الأمر (اعتبار الوطن مؤقتاً) في عدد من الظواهر المصاحبة للاختلال، الذي فجر الحراك في أكثر من مكان، ودام أشهراً حتى الآن في عدد من البلدان العربية، وعلى الأخص في كل من العراق ولبنان، لكنه ليس قاصراً عليهما فقط، فقد تخلى يوسف الشاهد رئيس وزراء تونس عن الجنسية الفرنسية بعد 3 سنوات من المشاركة في الحكم، فقط لما قرر الترشيح للرئاسة، في الوقت الذي طالبه راشد الغنوشي في تصريح علني بـ«التمهل عن التخلي عن الجنسية حتى الفوز بالرئاسة»!
في العراق، أحد الشروط الرئيسية التي يشترطها الحراك في تسمية رئيس الوزراء الذي يمكن أن يرضوا به هو ألا يكون مزدوج الجنسية، علماً بأن كثيراً من السياسيين في العراق اليوم يحملون جنسية ثانية، في الغالب غربية، ولم يتنازلوا عنها حتى بعد استقرارهم في الحكم، بل إن بعضهم مجرد ما أن يترك المنصب يعود إلى «جنة» الوطن المتبنى، طلباً للراحة والاستفادة من «التوفير الكبير» الذي جناه أيام «الكرسي» في الحكم أو قريباً منه. وتأتي الأخبار من لبنان أن بعض بنوك لبنان قريبة من العجز عن دفع ما يتوجب عليها دفعه تجاه عملائها، لأنها نضبت من العملة الدولية، بسبب تهافت بعض السياسيين على تحويل أموالهم إلى الخارج، وكثير منهم أيضاً يحمل صفة الازدواج في الجنسية، تمهيداً للبعد عن حريق وطنه إلى جنة اللجوء المريح.
في حال اعتبار أن الوطن مؤقت، فلا داعي لبذل جهد للقيام بالمساعدة في حل مشكلاته، أو لأن مشكلاته عصية على الحل، فالخطة الثانية هي استنزاف ما أمكن من ثرواته ونقلها إلى الخارج، على عكس ما يتشدق به كثيرون أن «لبنان وطن نهائي ولا وطن غيره»!!
موضوع المواطنة الثانية ليس ظاهرة سلبية بحد ذاتها، لكن بأهداف استخدامها، فهي أيضاً منتشرة في مجتمعات أخرى، ومنها بعض مجتمعات أميركا الجنوبية، حيث يربط الجميع في الدول «الثانية السلبية» رباط واحد، هو «الفشل في إقامة دولة حديثة»، على قاعدة قوانين خادمة لجميع شرائح المجتمع، وليست قوانين انتقائية للبعض، سواء أكان هذا البعض نخباً حاكمة أو عشائر أو مناطق بعينها في الوطن. ليست للمواطنة أهمية قصوى في استقرار الأوطان فقط، بل الأفراد كذلك، على سبيل المثال كثير من المؤسسات الإعلامية الناطقة بالعربية، التي تخدم الجمهور العربي من عواصم العالم المختلفة، أول شروط تفرضها على العاملين لديها أن يكونوا قد حصلوا على جنسية البلد، الذي تنطلق منه تلك الوسيلة ما أمكن، حتى لا يطغى ولاؤهم للوطن الأصلي على مهمتهم في توصيل رأي المؤسسة التي يعملون فيها، لكنها تظهر حيادية ومهنية، فإنْ حمل سياسي وثيقة مواطنة أخرى لبلد آخر، فهو إن بدا أنه يخدم وطنه إلا أن الغالب أن مصالح واستحقاقات الوطن الثاني (الملاذ) دائماً في ذهنه، ويتصرف على ذلك الأساس، خاصة في تلك البلدان ذات الهشاشة المؤسسية. المواطنة وتحديد مفهومها أصبح مثاراً في المجتمعات الغربية، الراسخة في الممارسة الديمقراطية، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2016 وفي مؤتمر حزب المحافظين البريطاني، بعد وصول السيدة تيريزا ماي إلى السلطة، قالت في خطابها؛ كثيرون يعتقدون أن العالم يعمل بشكل جيد لقلة مرفهة، وليس لهم، ذلك قول فيه كثير من الصحة، لكننا نحتاج إلى أن نقاوم ذلك، نحتاج إلى «إحياء روح المواطنة»، فالمواطنة هي التزام للنساء والرجال الذين يعيشون حولك، اليوم كثير من أهل النفوذ يتصرفون على أن ما يجمعهم مع «النخبة العالمية» أكثر مما يجمعهم مع مواطنيهم في نفس الشارع... فإن كنت تظن أنك مواطن عالمي، فأنت لا تفهم معنى المواطنة.
بالتأكيد السيدة تيريزا ماي وقتها كانت تعبر عن مشكلة كبرى تواجه وطنها، المعروفة بـ«البريكست»، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أنه في تلك المقولة تعبر أيضاً عن ظاهرة عالمية أصابتنا نحن العرب، فبجانب الهجرة الهائلة التي أرغمت ملايين العرب على ترك أوطانهم، هناك هجرة أخرى يقل الحديث عنها، وخاصة في أوساط النخب التي جاءت إلى الحكم في الأوطان المضطربة أو التي على شفا الاضطراب، وهي ما يمكن تسميته بـ«الهجرة الأخلاقية» التي تجعل في مكان ما الوطن يتحول من مكان عزيز بأرضه وأهله إلى «مزرعة» تنتج بعض الخير الشخصي للفرد ذاك، ولا يهم إن بُنيت مؤسسات أو مصحات أو طرق حتى وصول الكهرباء لمدنه وقراه، فالبديل لتلك النخب جاهز، والمال المنهوب هو الوطن، يرقد في البنوك الخارجية، ومتى ما توفرت الفرصة فأنت مواطن في دولة أخرى، حتى قد لا يطالك القانون المحلي.
يشهد العالم اليوم، مع ثورة الاتصال غير المسبوقة، ما يعرف بالمواطنة العالمية، وهي تحمل ثنائية، أي مثلبة ومنفعة، المهم كيف يمكن التصالح بين الاثنين، وربما المواطنة العالمية تختلف عن «المواطنة المؤقتة»، فالأولى تحتمل أن تكون مركزاً في مكانين، وتعطي الأولوية للمكان الأقرب، مع عدم نفي المكان الأبعد، في الثانية التفضيل للأبعد بدلاً من الأقرب، ما نشاهده هو الإخلال بالأقرب في أكثر من مكان عربي، التحاقاً بالأبعد، مع الضرر الواضح بالأقرب.
القضية الأساس ليست فقد الإحساس بالمواطنة، ولكن أيضاً فقد الإحساس بالمشاركة التي هي ركن من أركان الهوية، وهي علاقة عاطفية وليست ميكانيكية. في المكانين (العراق ولبنان) واضح أن الحراك الشعبي يرغب في تخطي الموانع الطائفية والطبقية للوصول إلى العلاقة العاطفية والإحساس بالمواطن مرفوعاً عنه انتماؤه الديني أو المذهبي، في الوقت الذي تحاول النخب أن تمزق ذلك الانتماء الوطني، وتحول دون تبلوره استكمالاً للاستفادة من المزرعة، ونزعاً للمواطنة، إما بتصعيد فوق الوطن، أي انتماء خارجي عابر للأوطان، وإما تحت الوطن، أي انتماء طائفي، وفي كثير منه ميليشياوي أيضاً. ذلك مجمل الضرر الذي يحول دون الوصول إلى حلول عقلانية لأوجاع الناس في أكثر من «وطن» عربي!!
انتفاء بناء وطن حديث، وطن يحتاج إلى إرادة وتصميم واستمرار، وقبل ذلك إلى قيادة لديها مشروع واضح للدولة، هو أصل العلة في التحول من المؤقت إلى الدائم.
آخر الكلام:
الفرق كبير بين التواصل العالمي والانعزال النخبوي عن الجمهور المرتكن إلى خيار آخر جاهز. الأخير يورث النفور المؤدي إلى العداء وفقد الثقة.