توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حرب الرؤوس وحرب الجيوش

  مصر اليوم -

حرب الرؤوس وحرب الجيوش

بقلم - عبد الرحمن شلقم

«الإنسان ـ أعني رأسمال الحرب ـ يحصل عليه المرء بالمجان. يطعمه ويربيه مثل العجل، ثم يحمله معه إلى ساحة الحرب، وهي سوق عادية للبيع والشراء بطرق المنافسة، وهناك يقايضه بأرنب مجفف أو كهف أو شارع في مدينة، ويدفنه في احتفال صاخب، ويقيم له نصب الجندي المجهول، ويدعوه شهيداً في طريقه إلى الجنة. الإنسان عملة نقدية من فئة القرش أو المليم حسب الظروف» (الصادق النيهوم).
سقراط يعيش في كل ثانية في الرؤوس، والإسكندر
الأكبر يخبو في قبر مجهول. التفكير والنقاش يكبر مع كل حرف يتعلمه إنسان. لكن السّم الذي تجرعه رأس السؤال الإنساني كثرت أوانيه واختلفت ألوانه، في كل يوم تتزاحم تعقيدات الحياة، تتضاعف الأسئلة أمام المفكرين كبارهم وصغارهم. حروب الجيوش تدور على الأرض فوق مساحات محددة وأوقات محدودة.
منذ انطلاق عاصفة الفكر في مرحلة النهضة والتنوير في أوروبا، دخلت معركة الرؤوس حلقة الاختبار الإنساني الأكبر. معركة سقراط الطويلة التي شرب فيها سماً من نوع آخر، سم المواجه المارد. جاليليو وكوبر نيكوس وعشرات معهم أشهروا سيوف العقل في مواجهة جحافل الجهل. الدين استخدمه أولياء التخلف درعاً يردون به زخم قوة الفكر والإبداع والحرية. منذ القرن الثاني عشر وحتى القرن التاسع عشر تدفق الفكر الإنساني الجديد. عاشت البشرية حروباً في بقاع شتى من العالم تحت رايات مختلفة وأهداف مشروعة أو غير مشروعة. الاستعمار لوَّن حقباً طويلة من التاريخ. سالت أنهار من الدماء دافع فيها وطنيون عن استقلال بلدانهم في مواجهة جيوش جرارة غازية. كانت تلك المعارك مواجهة دامية بين الرؤوس والجيوش. معارك الحرية الدامية على الأرض هي حلقة من حلقات حرية التفكير في الرؤوس. الاستعمار عاش ردحاً من الزمان هنيئاً فوق الأراضي المُستعمرة، ارتفعت نار المقاومة مع ارتفاع صوت فكر الحرية الذي أشعل نار التحرير.
شهد العالم تحالفات عسكرية امتدت في مساحات عابرة للقارات. ولدت تكتلات اقتصادية وسياسية، غاب التحالف والتكتل الفكري بين النخب العالمية في مراحل طويلة من التاريخ. لكن تراجع الأمية، واتساع مدى التعليم، والعولمة الإنسانية المدعومة بقوة وسائل التواصل والاتصال ووسائل الإعلام الكونية، أسست تحالف الحرية الفكرية، حلف الرؤوس الذي يجهز على خنادق الطغيان ويردع تحالف الجيوش.
التطرف الديني والقومي قوة الموت تحارب بسلاح دخاني يخنق حفرها، قبل أن يقتل من يواجهها. التخلف جيش يكفر التفكير، معركة عاشها التاريخ عبر القرون، لكن التطرف ميت يولد من ميت لا يحمل في داخله أنفاس الحياة. سقراط عالم من الحياة عابر للمكان والزمان، والذين قدموا له كأس السم رُدموا تحت تراب الماضي.
الفكر أقوى من كل وصفات الموت. فرنسا نابليون ساحت برجالها المسلحين بالبارود، انتصرت في حلقات وهزمت في أخرى، احتلت أجزاء من آسيا وأفريقيا وجنوب أميركا، وبريطانيا التي ارتفع علمها ردحاً من الزمن على أصقاع الدنيا وكذلك إسبانيا والبرتغال وروسيا، قوة سادت ثم زالت.
جيش العقل والفكر ليس له جنرالات يحملون الرتب والنياشين. لا تراتبية قيادية ومنظومات لإصدار الأوامر.
نقول: جيش هنا بمعنى (قوة الفعل) التي تفتح أبواب الحياة المتجددة بقوة الإنسان الكامنة في تكوينه. الفلاسفة والمفكرون قوة فتح وكبح. الطغاة والعنصريون والاستعمار، كانت القوة الغاشمة والقهر واحتقار الإنسان والتجهيل سلاحهم الأقوى، لكن الفكر الإنساني المتسلح بقوة الحرية والعدالة وخرائط الفكر، يسلب الطغاة قوتهم في صبر إعجازي ينساب إلى الرؤوس. تتهاوى قلاع الطرف الآخر في معركة لا يرونها، ويتقدم النصر بلا أرتال مجنزرة. العنف والطغيان لا يقهر إلا بقوة الفكر.
قال الفيلسوف برتراند راسل: (يخافون الأفكار أكثر من أي شيء، أكثر من الخراب، حتى أكثر من الموت. الأفكار لا ترحم المزايا، المؤسسات القائمة أو العادات المريحة لا تحكمها القوانين ولا تبالي بالسلطة. الأفكار سريعة وحرة ومجانية، إنها الشعلة المضيئة للعالم، إنها مجد الإنسان الحقيقي).
نحن على أبواب عالم مختلف يتحرك بعصبية معسكرة اقتصادياً وسياسياً. العنف في صور دامية من كيانات مجنونة، لا تقيم للحياة الإنسانية قيمة. تراجعت قوة الفكر التي تفتح باب الإبداع الذي يكتب صفحات جديدة لعالم جديد. فعالية الفكر بطيئة عكس فعالية التطرف العنيف الذي يتوجه إلى القاصرين، يقدم لهم عالماً وهمياً بديلاً، يكونون فيه فوق الآخرين، أبطالاً سيغيرون الدنيا عنوة، كل فرد منهم يعتقد أنه يجمع في ذاته كل العظماء والأقوياء في التاريخ.
هذه الحالة تختلف عندما يواجه الفكر شخصاً طاغية يسيطر بالقوة على بلاده ومقدراتها مثل هتلر وستالين وموسوليني وغيرهم. التنظيمات الإرهابية هي تجمع مشوه من عناصر مشوهة. أشباح تتكوّم حول جنون الدم، تصنع منه كياناً في عالم خاص لا قيمة لمن هو خارجه، بل حتى من هم بداخله، يفقدون أي قيمة إذا حاولوا أن يكونوا من حملة العقل، مناقشة عقيدة الوهم أو التراجع عنها أو عن بعضها تعني الإزالة من الوجود.
للأسف، المرض يعدي، الصحة لا تعدي.
العالم يحتاج إلى تحالف فكري واسع، فوق الآيديولوجيات والحسابات السياسية. الأنظمة السياسية في العالم اليوم تفرقها أنانية تقفز فوق الاستحقاقات الوجودية، من قضية المناخ إلى كارثة الهجرة غير القانونية، والأوبئة، والفقر. المعركة العالمية اليوم بين الحياة والموت. التطرف الديني والعنصري وباء العصر يهدد الغني والفقير، الكبير والصغير، لا يمكن مواجهته بغلق الحدود، أو بسياسات منفردة، التحالف الكوني ضد وباء الجنون الدموي خطه الأول قوة تنوير وحداثة إنسانية شاملة، تسخر لها إمكانيات العقل البشري القادرة على تأسيس حالة وعي إنساني وثقافة التسامح المتعالية فوق الحدود السياسية للأوطان. قوة الرؤوس أقوى من الجيوش.

 

 

نقلا عن الشرق الاوسط

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حرب الرؤوس وحرب الجيوش حرب الرؤوس وحرب الجيوش



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon