توقيت القاهرة المحلي 11:13:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع

  مصر اليوم -

لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع

بقلم - عبد الرحمن شلقم

من سجنه يعود لولا داسيلفا، إلى معترك انتخابات الرئاسة البرازيلية التي ستجرى في شهر أكتوبر القادم، وكأنه يندفع من ظلام غابات الأمازون، وينهض من أمواج أنهاره.
وجه انكب سنوات بظهر منحنٍ ليمسح أحذية المارة، ويد تدفع مكنسة ثقيلة لتنظف الشوارع التي تتكدس فيها القمامة، وتعبرها أجساد تحركها بقايا حياة، وتتلوى فيها رعشات الجوع. هناك ترعرع حلم مستطيل كما هي خارطة البرازيل، اسمه لويس إناسيو لولا داسيلفا. في غرفة صغيرة تكدس لويس مع إخوته الخمسة ووسطهم أم فرَّ ربُّ بيتها إلى حضن امرأة آنسته ما عداها. لم يكمل الطفل دراسته الابتدائية، فطلبات البطن تسبق ما يطلبه الرأس. تنقل من عمل إلى آخر في مدن البرازيل التي تكتظ بالبطالة والجوع والجريمة. لكن في معمل نجارة كان للويس إناسيو لولا موعد مع ولادته الثانية في أحشاء البرازيل. قطع إصبعه البنصر، ليسكن ذلك الرفيق الصغير المقطوع في رأس الشاب الكادح، ويكون أكاديمية الفكر والعقل والسياسة والنضال.
انشغلت أميركا اللاتينية، وشغلت العالم بوميض ثوري رافقته أسماء وصور لرموزه في القرن العشرين مثل كاسترو وجيفارا، وسادت في بعض الدول صرخات شعاراتية في كوبا وبوليفيا ونيكاراغوا وفنزويلا وغيرها تدعو لوحدة لاتينية ومواجهة الهيمنة الخارجية وخاصةً الأميركية. تلك السياسات والشعارات كانت لها جذور قديمة منذ ثورات سيمون بوليفار. البرازيل خاضت حربا ضد الاستعمار البرتغالي وتحررت سنة 1823.
إناسيو لولا داسيلفا كان مدرسة خاصة في النضال من أجل العدالة، وخدمة الفقراء. كان نقابيا يساريا، ودخل السجون، وخاض العمل السياسي ببرنامج عملي وأسس حزب العمال الذي هفت إليه عقول الطامحين في تغيير يقوم على معرفة احتياجات البلاد وإمكانياتها، دون الدخول في عداوات وصدامات شعاراتية مع دول أخرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا أو دول في داخل أميركا اللاتينية.
قابلت السيد لولا داسيلفا مرات قبل توليه الرئاسة بمنزله المتواضع في سان باولو، ولقد فوجئت بمدى إلمامه بتفاصيل ما تعانيه بلاده، ورؤيته الشاملة للحلول في كل المجالات. كان موضوع فلاحين بلا أرض، قضية الساعة في البرازيل، وكانت مقاربته لحل هذه القضية، مبنية على معطيات واقعية لا تمس مصالح الملاك، وفي ذات الوقت توفر الفرص للفلاحين لاستثمار الأراضي الشاسعة في البلاد. تحدث مطولا عن الوضع الدولي وقدم تحليلا سياسيا واسعا. لم يتحدث بمنطق اليساري الاشتراكي الثوري، بل بعقل السياسي الذي تسكنه رحلة طويلة من المعاناة التي شاركها عبر حياته مع الطبقة المسحوقة من شعبه. قابلته بعد فوزه في انتخابات 2002، فوجدته يفكر بعقل المدرك لحجم المسؤولية الكبيرة، ويعبئ قدراته وتجربته لمواجهة ما ينتظره من تحديات داخلية وخارجية.
بدأ معركته واقتحم جبال الملفات التي تمتد فوق خارطة البرازيل الطويلة بما فوقها من غابات أمازونية وأنهار ومعاناة من الجريمة إلى الجوع والبطالة والتفاوت الطبقي الكبير.
أميركا اللاتينية مرت بمراحل تلاحقت فيها الاضطرابات. من حروب الاستقلال إلى حلم إقامة ولايات متحدة لاتينية على غرار الولايات المتحدة الأميركية. قاد ذلك الحلم الثائر سيمون بوليفار، في البداية لاحت بعض النجاحات ولكن الانكسارات كانت أقوى.
الانقلابات العسكرية اجتاحت كثير من دول القارة ومن بينها البرازيل، وألحقت بهذه الدول كوارث حقيقية. في أواخر القرن الماضي ولدت مرحلة جديدة سادت فيها الديمقراطية، لكن النزعة الثورية ظلت تطفو في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا والإكوادور وغيرها. لولا داسيلفا قدم نموذجا مبتكرا في القارة. الديمقراطية وحرية الرأي والتنمية والتوازن السياسي على المستوى الدولي والمحافظة على استقلال القرار الوطني. اختلف في بعض التوجهات مع سياسة الولايات المتحدة الأميركية، لكنه لم يصطدم بها أو يعلن العداء المباشر لها. كان همه الأساسي تحقيق نقلة اقتصادية في بلاده التي تمتلك مقدرات هائلة. نجح في إخراج أكثر من عشرين مليون مواطن من تحت خط الفقر وحقق فائضاً ماليا تجاوز مائتي مليار دولار، ورفع حجم الصادرات وتوسع في الاستثمار الداخلي وخاصةً في مجال النفط وغيره من الخامات، وطور الصناعات المختلفة، ورفع قدرات الجيش وفرض التجنيد الإلزامي، وأصبح الجيش البرازيلي الأكبر والأقوى في أميركا اللاتينية. في سنوات رئاسته، أصبحت البرازيل الدولة الثامنة في الترتيب الاقتصادي العالمي. تخلّق تيار سياسي جديد في أميركا اللاتينية، تبنى النموذج البرازيلي الجديد، ارتكز على إمكانية تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي واستقلال القرار الوطني، دون الاندفاع في مسار الهياج الشعاراتي الثوري الرغبوي.
صار لهذا التيار أنصار في داخل البرازيل وخارجها. تحركت القوى المضادة التي أسست تحالفا ضد سياسة لولا داسيلفا، وأسست تحالفا له امتدادات خارجية، وتحركت القوى اليمينية بما تملكه من إمكانيات مالية هائلة ووسائل إعلام وتنظيمات سياسية، مستهدفة المشروع والشخص الذي يقوده. وجهت للولا داسيلفا الفقير تهمة الفساد المالي، وحكم عليه بالسجن. الآن، بدأ العد التنازلي لخوض معركته الرئاسية الجديدة ضد الرئيس جايير بولسينارو الذي يكرر إيمانه بحكم الجيش وبنية المجتمع الطبقي، ويفتح الطريق أمام المندفعين للاستيلاء على غابات الأمازون. استطلاع الرأي العام أعطى لولا داسيلفا 43 في المائة في حين لم يتجاوز الرئيس جايير بولسينارو 26 في المائة الذي باشر مبكرا في خوض حملته الانتخابية. البرازيليون يرون في الانتخابات الرئاسية القادمة، معركة بين مشروعين وليس بين شخصين، وأميركا اللاتينية الرسمية والشعبية تنظر إلى هذه الانتخابات وتنتظرها لأهمية البرازيل في القارة.
ماسح الأحذية وبائع الخضراوات والعامل المتنقل بين المصانع الصغيرة والكبيرة ونقيب العمال ورئيس الجمهورية، ما زال يحمل سلاحه المقدس في ثكنة عقله، وهو خنصره الصغير المقطوع، ففيه تتفاعل قضية وطن وتتحصن إرادة. معركة قادمة بين مشروعين، أحدهما يقوده بنصر البرازيل المقطوع، وآخر يتوكأ على عصا السلطة والجيش.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon