توقيت القاهرة المحلي 11:05:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الأسئلة المبصرة

  مصر اليوم -

الأسئلة المبصرة

بقلم - عبد الرحمن شلقم

«السؤال بصير والإجابة عمياء»... أرسطو.
عبر العصور كان الإنسان يقدح قوة عقله بزناد السؤال. (الإنسان كائن يسأل). إذا غاب السؤال غفت الحياة، وسرى الفتور في حيوية ومفاصل الكيان وتصلبت شرايين الإبداع والعلم والفكر والخلق والتطور. «قُفل باب الاجتهاد»، قول صرخ به فقيه غاضب في حلقة زمن غشّاها رماد الخلاف والخوف. لكنّ تلك الكلمات الثلاث ظلت قفلاً على باب العقل العربي بل الإسلامي كله، وصار البحثُ عن مفتاح ذلك الباب الذي أُغلق يشكّل خطيئة لا يغفرها إلا الضرب على اليد التي تغربل تراب الزمان بحثاً عن المفتاح السحري القادر على فتح الباب الأسطوري الذي لا أحد يعلم أين يقع في الدنيا التي لا تتوقف عن الحركة والتغير.
مَن ذا الذي أعطى ذاك الحكيم العليم الحق في إصدار أمره الأبديّ بقفل باب الاجتهاد؟ هل علم أن كلماته تلك تعني إلغاء العقل وتحويله إلى شقفة حجارة جامدة تسكن الرؤوس والقلوب؟ بينما الحياة تلد كل يوم آلاف الأبواب التي مفتاحها العقل وحده؟ أكرر؛ الإنسان كائن يسأل، وحينما يتوقف عن السؤال يتحول إلى شيء لا حراك فيه ولا نَفَس. كل إنجاز علمي أو فكري أو تقني حققته البشرية كان إجابة عن سؤال طاف برحاب عقل سليم.
الفقيه الذي قفل باب الاجتهاد، ولا نعلم أين ألقى مفتاحه، ألقى العقل العربي والإسلامي في زنزانة مظلمة لم يدخلها ضوء السؤال لقرون. مَن حاول أن يغامر ويقدح ضوءاً بزناد عقله كان مصيره العقاب. ساح الظلام فوق الناس في المكان والزمان وغلَّ العقول ليس في مجال الفقه فحسب، ولكنه طال العلوم والإبداع والفكر. كان مع قفل باب الاجتهاد قفل آخر وهو مقولة «من تمنطق فقد تزندق»!
الصناعة الوحيدة التي ازدهرت لقرون في دنيانا، نحن معشر المسلمين، كانت صناعة الأقفال، وكل من حاول الاقتراب من الباب المُقفل كان مصيره العقاب. العلماء الكبار، أبو بكر الرازي الطبيب الفيلسوف وعالم الكيمياء والرياضيات ولا يزال تمثاله مرتفعاً بكلية الطب بباريس، أُلقيت عليه حجارة الاتهامات، وكذلك جابر بن حيان والخوارزمي وابن رشد والفارابي وابن الهيثم والكندي وغيرهم، وكانت تهمتهم الاقتراب من الباب المقفل. العقل بيت السؤال الذي يخلق الإجابات التي تحرّك قدرات الإنسان، ولكنّ سدنة الجهل والتخلف لا يُلقون سلاحهم بسهولة ولا يكفّون عن ملاحقة أهل العقول منذ سقراط الذي دفع حياته لأنه قدح عقول الشباب بزناد السؤال.
القلق الفكري كان رفيق المسلمين لقرون طويلة، فقد شكّل الموروث الفقهي حجارة ضخمة تنبت أشواكها الحادة الرهيبة بلا مواسم للزراعة والحصاد، فأدمت عقول وأجساد كل من اجتهد في العلم والفلسفة والدين: أبو حامد الغزالي اقترب من الفلسفة، لكنه فرَّ منها مسرعاً. ابن رشد الفقيه القاضي الذي ألّف في مجال الدين الإسلامي وأعطى جزءاً من عمره لفلسفة أرسطو، لم يغفر له تدينه خطيئة قدح زناد عقله فكانت عقوبته النفي وإحراق مؤلفاته بعدما دُمغ بحجارة الزندقة، وتسابق فلاسفة أوروبا لترجمة كتبه، وصورته بعمامته العربية عُلقت في قصر أمير فلورنسا بإيطاليا مع مفكري ومبدعي عصر النهضة. بقي الفقهاء يحفرون الخنادق العميقة المظلمة التي يلقون فيها بمفاتيح العقول ومعها أنفاس الأسئلة التي تنفع الناس وتشحن قدراتهم نحو الإبداع والاختراع وتسابقوا على صناعة كمامات التحريم السوداء الحارقة التي تُشيِّئ البشر.
اليوم لا مناص من كسر ذلك الباب الرهيب الذي التهم تراب الزمن مفتاحه، ولم يعد له وجود إلا في الوهم المراوغ بأفواه بقايا مومياء محنطة في أسمال دهر غابر.
إن فتح الأبواب لطوفان الأسئلة التي تموج في العقول منذ سنين، لتندفع الإجابات التي غابت وراء الباب الحجري الوهمي الذي سدَّ مسالك التقدم والنهوض على مدى قرون، هو المنقذ من الضلال والتخلف. كل زمن يبدع أسئلته ويُنتج إجاباته في إنجازات ملموسة تدفع الحياة إلى الأمام. الفلسفة كانت أمواج أسئلة، وكان جوابها العلم والاختراع والحرية وكذلك التطور السياسي والاجتماعي والقانوني والصناعي. صناعة الأبواب وأقفالها لا تكسرها إلا جحافل الأسئلة الكبيرة الجريئة التي تقدح عبقرية الإنسان الأبدية. في دنيا العرب والمسلمين، كانت تلك ملحمة طويلة ولا نزال نعيشها أو بعضاً منها. في عقود مضت، ألّف الأستاذ عباس محمود العقاد كتاب «التفكير فريضة إسلامية» منطلقاً من آيات قرآنية تدعو الناس إلى التفكير والتعقل والتدبر والنظر وبإلحاح رباني ترفعها إلى درجة الفريضة على كل مؤمن، وقال ما معناه إن التفكير فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ولكن بعد عقود من نشر كتاب عباس محمود العقاد الذي وقف طويلاً متعمقاً في قوله تعالى: «أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوبٍ أقفالها»، جاء مَن نشر كتاباً تحت عنوان «الفريضة الغائبة»، وهي العنف والقتل، بحجة أن الفريضة الغائبة هي الجهاد. المسافة بين الكتابين ليست مجرد مسافة زمنية، لكنها -ويا للأسف- تعبير عن أعراض الوهَن الفكري الذي يطال الرؤوس فتنزُّ صديد الجهل الذي يجعل القتل فريضة يستلّها من وراء تطرف معادٍ للحياة ويحرّف مضمون الدين الإسلامي. كتاب الأستاذ العقاد جاء في زمن الأسئلة الموضوعية، حيث كان العالم كله يعيش مرحلة فريدة من التطور والتغير بما فيها من سلام وحروب واستعمار وهبَّات تحرر، واعتقد العقاد أن التفكير هو طوق نجاة المسلمين في ذلك الخضم الكوني. الدكتور فرج فودة نشر عدة كتب ومن بينها كتاب «الحقيقة الغائبة»، لامس فيها قضايا ملتهبة على رأسها الإرهاب والتطرف وطرح طوفاناً من الأسئلة، وكانت الإجابة قتله ودفع حياته ثمناً لتلك الحقيقة التي لا نعلم متى تعود.
إن جرأة الفكر تهب البصر للحياة وتقدم الإجابات التي تدفع الحياة إلى الأمام.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأسئلة المبصرة الأسئلة المبصرة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon