بقلم - حسين شبكشي
مع التغيرات السريعة والمتنوعة الحاصلة في العالم اليوم، تواجه الدول الديمقراطية الرأسمالية تحديات جديدة وغير مسبوقة تجعلها بحاجة لمراجعات قانونية جادة لن يتوقف تأثيرها عند الدول المعنية نفسها فقط، ولكن حتماً ستؤثر في آخرين.
هناك مطاردة ولحاق لا ينقطعان من قبل الحكومات الأوروبية بحق شركات التقنية (كلها شركات أميركية) تطالبها بسداد «مستحقات ضريبية باهظة» نتاج أرباحها «العظيمة». والآن تواجه هذه الشركات الادعاء القائم عليها بالحجة الأعظم التي قامت عليها القاعدة الديمقراطية الأساسية، وهي أنه «لا توجد ضرائب من دون تمثيل»، فهذه الشركات تطعن في مبدأ السداد الضريبي دون أن يكون لها حق التصويت على أحقيته، وهي تحاجج الدول بأنها تتعرض لـ«العقوبة» كونها شركات رقمية تعمل في فضاء الإنترنت الذي لا يخضع للرقابة والحدود، وبالتالي القواعد والقوانين والأنظمة السيادية التقليدية.
هذا النقاش جديد غير مسبوق وسيمهد لسابقة قانونية تبنى عليها الأحكام القضائية المستقبلية، ولذلك يراقبه ويتابعه المعنيون بحماس وعن كثب، وسيكون الحكم الصادر في أوروبا مؤثراً في الشركات الأميركية بشكل مبدئي. وليست هذه هي المسألة الوحيدة التي تؤرق المشرعين والقانونيين في الدول الرأسمالية، فهناك منظومة مكافحة الاحتكار الموجودة بأشكال مختلفة، وهي التي تمنع باختصار أي شركة من أن تكون لديها حصة سوقية تتجاوز 60 في المائة تعتبر ضمنياً «محتكرة»، ويجب معاقبتها إما بتفتيتها كما حصل قديماً في الثلاثينات من القرن الماضي مع شركات الحديد والمصارف والنفط في الولايات المتحدة، وإما لاحقاً مع شركة الاتصالات العملاقة «إيه تي آند تي».
واليوم يراقب الناس النمو الأخطبوطي الطاغي للمتجر الإلكتروني «أمازون» الذي ارتاح إليه الناس باعتباره بديلاً فعالاً وناجحاً يخلصهم من هيمنة المتاجر الكبرى وسيطرتها بتقديم السلع بأسعار مخفضة ومنافسة جداً، ومع الوقت كبر حجم «أمازون» وتوسعت فروعه حول العالم، وكان كالبلدوزر يتسبب بغلق المتاجر التقليدية ويحدث الانقلاب العظيم في عالم التجزئة، وبدأ يتحول هو نفسه إلى شبه محتكر، ولكنه في وضع قانوني جديد وغير مسبوق، إذ إنه في مساحات «رقمية» ولا يمكن بشكل حرفي تطبيق قانون مكافحة الاحتكار عليه، وهي الآن مسألة تحير المشرعين والقانونيين وتشكل تحدياً بالغ الأهمية لهم.
كذلك تشكل اختراقات التقنية تحدياً لمنظومة الديمقراطية نفسها، فاليوم الحكومات الغربية في حيرة من أمرها وهي ترى ما تسببه «اختراقات» موقع «فيسبوك»، والأثر الملموس الذي أحدثته في الانتخابات الأخيرة، وقبلها في الانتخابات الرئاسية في أميركا، وكذلك في مظاهرات فرنسا الأخيرة... الحيرة بين «تقييد» حرية الرأي (وهي من أعمدة القواعد والحقوق الديمقراطية)، وبين الحفاظ على نزاهة العملية الانتخابية ومنع تلوثها من القوى الخارجية، ولكن إذا فعلت ذلك فهي تقع تحت طائلة الاتهام بقمع الحريات وتقييدها، وإذا تركتها فهي تجعل العملية الديمقراطية نفسها والمتمثلة في العملية الانتخابية عرضة للتشكيك، مما يهز مبدأ العقيدة السياسية الغربية نفسها.
وأخيراً هناك مسألة طغيان السلطة؛ تلك الظاهرة الآخذة في «التوسع» بشكل مقلق وتحجيم مبدأ «فصل» السلطات أحد أهم عناصر المسألة الديمقراطية، هذه التحديات يبحث فيها رموز مؤسسات الفكر ودوائر صناعة القرار في الغرب نظراً لجديتها وخطورة تداعياتها مع عدم التخفيف من أثر الهجوم القاسي والمتعمد على الصحافة وحرية الرأي، ودورها كسلطة رابعة مؤثرة والتشكيك المستمر فيها، وبذلك تختفي العين المراقبة والضمير الناقل.
الكاتب الإنجليزي الكبير جورج أورويل توقع كل ذلك في روايته الخالدة «1984» وعلى ما يبدو أن الغرب يعيش كابوس العالم الأورويلي.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع