بقلم - حسين شبكشي
بعد أيام قليلة جداً ينطلق المنتدى الاقتصادي الدولي، الذي ينعقد بمنتجعات القرية الثلجية الحالمة بين جبال الألب السويسرية في دافوس. هذا المنتدى الدولي تحول إلى مزار سنوي لقادة السياسة والاقتصاد حول العالم. هناك أصوات متعالية تطالب بإلغائه فوراً، تتهم المنتدى بأنه أصبح منفصلاً ومعزولاً عن الواقع وعن الحقيقة، وبسبب هذا الانعزال والانفصال خرجت سياسات وقرارات أدت إلى كوارث، ويستشهدون بلقاءات أهم قادة المصارف العالمية في غرف معزولة في المنتدى لرسم سياسات عولمة البنوك، ومع كل هذا لم يستطيعوا منع الكارثة الاقتصادية المالية الكبرى التي حدثت في عام 2008 والتي لا يزال العالم يدفع ثمن فاتورتها الباهظة حتى اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة لشركات التقنية العملاقة - مثل «غوغل» و«فيسبوك» وغيرهما - تقابلوا في كواليس المنتدى لإطلاق تقنيات معرفية متاحة لأكبر عدد من الناس وتسهل عليهم حياتهم وصناعة قراراتهم، وإذا هي تتحول إلى مدمر للخصوصية وناشر للأخبار الكاذبة، وساهم بشكل كبير في التأثير السلبي على القيم الديمقراطية الأهم في الغرب وتضليل الناخبين المشاركين فيها.
هذه مجرد أمثلة سريعة عن حجم البعد والانعزال عن الواقع الذي باتت عليه أحداث المنتدى وفعالياته وبعدها عن أرض الواقع. هذا مع عدم إغفال عدم قدرة المنتدى على قراءة الحراك الشعبوي الذي صعد في الغرب بشكل صاروخي، وبات يشكل أهم وأكبر وأخطر تحدٍ وجودي لخط العولمة الذي ميز المنتدى، وكان شعار انطلاقاته السنوية دوماً، حتى تحول إلى قبلة لمريدي العولمة نفسها. ولكن مع مرور الوقت ازدادت الأصوات الغاضبة بحق المنتدى واعتبرته مؤتمراً معزولاً ومضراً بمصالح الناس، بل هو مضر بمصالح الدول العربية نفسها لأنه يشجع على نوع واحد فقط من الرأسمالية، وهي الرأسمالية المتوحشة التي لا مسؤولية لها وبالتالي هناك بعد عن المسؤولية الاجتماعية وحماية البيئة والحوكمة المسؤولة الرشيدة. الرأسمالية المتوحشة هي المكيافيلية المالية، الربح بأي ثمن.
المنتدى الاقتصادي الدولي بدأ بأسلوب المنتدى «البوتيك» المحدود، وتحول مع الوقت إلى «هايبرماركت».. نادٍ للكل طالما يتم فيه دفع الاشتراكات الباهظة. وهناك سلسلة من التحقيقات الصحافية المحترمة التي تطرقت إلى «المصالح» التي يتم تحقيقها من خلال إدارة المنتدى وتحقيق موارد عظيمة استغلالاً للمناسبة من خلال شركات وخدمات مقدمة تطرقت إليها الصحافة السويسرية وصدرت بعضها في كتاب.
المنتدى الاقتصادي الدولي ليس المنتدى الوحيد ولكنه حتما الأشهر وباتت هناك مطالب بتغيير إدارته أو إغلاقه تماماً لأنه أصبح أحد أسباب المشكلة بعد أن كان يطرح نفسه كمنبر للحلول.
الانعزال عن الواقع يعمي دوماً حتى لو كان المنتدى عالمياً، فالحقيقة أقوى وأهم. المنتديات الاقتصادية العالمية الغاية منها بناء الجسور وكسر الحواجز بين الأمم، وإيجاد الحلول للمشاكل والتحديات التي تواجههم. ولكن حينما تختلط الأولويات وتتغير الأهداف تطغى صورة الجشع على كل الغايات النبيلة.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع