بقلم: حسين شبكشي
لفت نظري تعليق متشابه في كل من العراق ولبنان صادر عن فريق سياسي في البلدين، في تصريح لهم بخصوص المواقف السياسية التي عبر عنها خصومهم، جاء فيه: «إنهم لا يشبهوننا». وعاد بي هذا التصريح الملتهب إلى الجدل الذي لا ينتهي في الدول المختلفة من العالم العربي، والمتعلق بأزمة وصراع الهويات، وهي المشكلة التي لا تزال قائمة وتأخذ أشكالاً مختلفة بحسب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بكل بلد وأوضاعه. فهذه المنطقة من العالم لا تزال تتصارع على تعريف نفسها للعالم بحسب الاسم الذي تعتمده لنفسها، وبالتالي تعرف نفسها للعالم بناء على ذلك... فهل هي منطقة الشرق الأوسط ذات البعد العربي وغير العربي في آن؛ فهي تشمل بالإضافة إلى الدول العربية دولاً أخرى غير عربية مثل تركيا وإسرائيل وقبرص، بل قد تضم حتى أفغانستان والحبشة ومالطا في بعض الأحيان؟ وقد تطور هذا الاسم منذ سنوات ليصبح «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، فتصبح هذه التسمية أوسع وأشمل جغرافياً مع تركيز لا يمكن إغفاله على البعد الاقتصادي ومنافعه ومزاياه.
جاءت هذه المسميات لتحل بالتدريج بديلاً للمسمى الذي عرفت به المنطقة وهو «الوطن العربي» أو «العالم العربي» الذي كان يركز على إبراز منطقة متجانسة فكرياً واجتماعياً وثقافياً... شعوب عربية الثقافة حتى لو تعددت أعراقها وأصولها؛ لأن الحضارة والثقافة العربية بمفهومها الإنساني هي ثقافة حاضنة وشاملة وجامعة كما أثبت لنا التاريخ بأشكال مختلفة ومتنوعة، وبالتالي يكون من الجهل والتطرف حصرها في عنصر واحد لأنها اتسعت ولا تزال تتسع للكردي والأفريقي والآسيوي والأرمني والأمازيغي... ولكثير غيرهم. مواطنون اندمجوا بالكامل في أوطانهم العربية، وكانوا منتجين وناجحين ومميزين في مجالات عديدة ومختلفة.
التضييق العنيف بالعنصرية والتطرف والتمييز ضد هذا النوع من التعريف بهوية العالم العربي هو الذي تطور ليصبح الصوت الأعلى فيه الصوت الطائفي والمذهبي والمناطقي الضيق؛ لأنه يعتمد على تعريفات شديدة المحدودية لمعنى ومفهوم الانتماء لمنطقة كانت تعرف يوماً باسم «العالم العربي». وما ينطبق على المعنى العريض لمفهوم الانتماء في «العالم العربي» ينطبق بصورة مصغرة على فكرة الانتماء لمعظم الأوطان العربية.
ما الذي يجعل أبناء الوطن الواحد «يتشابهون» بحسب الكلمة الواردة في أول المقال بناء على التعليق السياسي المذكور؟ في اعتقاد أحد القانونيين المرموقين الذين استضافتهم قناة إخبارية معروفة، أن السبب الحقيقي في الإحساس الحقيقي بالتشابه المقصود بين المواطنين وبعضهم بعضاً، هو الطمأنينة تجاه فكرة المواطنة السوية، والثقة بتكافؤ الفرص، واعتمادية ومصداقية المنظومة القضائية، وقتها يكون الإحساس الراسخ بأن الكل يشبه بعضه بعضاً تحت هذا السقف. وهناك أمثلة قديمة على سلاسة وانسيابية الإرث التاريخي للهويات، ولعل المثل الصارخ والمهم لذلك هو حضارة البحر المتوسط الذي كان لفترة غير بسيطة مهد الحضارات العالمية منذ فجر التاريخ وصولاً لحقبة القرن التاسع العشر، فعلى سواحله جرى احتضان ثقافات بلاد النهرين وبلاد الشام ومصر التاريخية، مع عدم إغفال الجوانب الإغريقية والرومانية، وعرفت أيضاً الظهور المبكر للحضور البابلي والكنعاني والآشوري والفرعوني والفينيقي والسومري، وانعكس هذا المناخ الثقافي العميق في منطقة جغرافية واحدة على العلاقات بين شعوبها ودولها في بدايات القرن العشرين، لتشهد نجاحات سياسية واقتصادية وثقافية وفنية واجتماعية بشكل لا يمكن إنكاره ولا إغفاله أبداً.
هناك دول وشعوب في حالة سلام عميق وعظيم مع ذاتها لقناعتها بأن تعريف الهوية والانتماء فيها هو تعريف شمولي وواسع؛ بعيداً تماماً عن التعريفات المحدودة والضيقة المسمومة. لم يكن تعليق المسؤول السياسي عن الفريق الخصم بقوله «إنهم لا يشبهوننا» مستغرباً مطلقاً بالقياس لحالة التقسيم والتشرذم الديني والمذهبي والطائفي والعرقي والمناطقي الموجودة في كل من العراق ولبنان، ففي هذا المناخ الملغم والمسموم يصبح من الطبيعي ألا يشبه أحد الآخر. ولعل أهم من كتب في الأمر بإسهاب وبعمق بليغ وعن تجربة شخصية ثرية، هو الكاتب الكبير اللبناني االاسملأصل والفرنسي الجنسية أمين معلوف الذي أجاب حينما سئل عن الهوية فقال: «الهوية لا تتجزأ أبداً ولا تتوزع أنصافاً أو أثلاثاً أو مناطق منفصلة»، وهو يذكرنا بمقولة شهيرة للفيلسوف الفرنسي الراحل روجيه غارودي قال فيها: «إن المصدر الأساسي لكل أصولية اليوم هو قمع واضطهاد هوية مُتحدها ثقافتها أو دينها».