بقلم: حسين شبكشي
عاش حالماً، مؤمناً ومكافحاً، ورحل مهموماً ومكسوراً ومحبطاً.
هكذا من الممكن وصف حياة رياض نجيب الريس، الذي رحل عن دنيانا بعد تخطيه العقد الثامن من العمر متأثراً بمضاعفات فيروس كورونا. كانت الصحافة تجري في دمه، وكانت عشقه الأول، من خلال هذا العشق كان يؤمن ويحلم بسوريا مدنية وحرة وجامعة. حاول بشتى الطرق الإبقاء على مسيرة والده الصحافية المميزة التي برزت في صحيفته التي أسسها والمعروفة باسم «القبس» والتي شكلت مع صحف مميزة أخرى مثل «الأيام» و«الأخبار» والساخرة الجريئة «المضحك المبكي»، وغيرهم بطبيعة الحال، رئة ومتنفساً لحرية الكلمة والإعلام الحر.
كل ذلك كان في حقبة الانتداب الفرنسي والحكومات الوطنية التي تلت تلك الحقبة. بدأ رياض الريس مسيرته الصحافية في صحيفة والده «القبس» الدمشقية، ثم واصل مشواره الصحافي خلال دراسته ببرمانا في لبنان، وبعد ذلك في لندن. عاد إلى لبنان ليعمل في صحيفة «الحياة»، مع مؤسسها كامل مروة مراسلاً صحافياً ليغطي حرب فيتنام، ثم عمل في صحيفة «النهار» مع غسان تويني، ثم في مجلة «الصياد» مع سعيد فريحة. ومع اندلاع الحرب الأهلية المدمرة في لبنان يغادر إلى عاصمة الضباب لندن ليصدر منها أول أسبوعية عربية من قلب القارة الأوروبية باسم «المنار»، ثم أسس من هناك أيضاً دار رياض نجيب الريس عام 1986، والتي كانت مرآة لصاحبها، فتميزت بإصدارات حرة وجريئة متطرقة لمواضيع مثيرة للجدل لمحيط عربي لم يعتد على حرية الكلمة؛ ولذلك كان من الطبيعي أن تلقى المنع، إلا أن ذلك لم يمنع من وصولها إلى قاعدة عريضة وواسعة جداً من القراء. رافق تأسيس الدار افتتاح مكتبة «الكشكول» في لندن، ثم أطلق مجلة «الناقد» بجرأة نقدية غير مسبوقة أدى إلى منع انتشارها عربياً وتوقفها، وبعد خسائر مالية كبيرة أعاد الكرة بإطلاق تجربة جديدة ومجلة أخرى باسم «النقاد» وجدت المصير نفسه، وواجهت الرفض الرقابي والمنع المصاحب؛ فخسر مالياً وأغلقها.
إحباطات عالم الصحافة وهي حبّه الأول أمرض الرجل وأنهكه فتفرغ للنشر وتألق فيه، فاهتم بالاعتناء بالشكل الجمالي للكتاب، واعتنى بطباعته وألوانه وبرع في تغطية الشأن السوري والخليجي والديني على المستوى الشخصي وكدار نشر بشكل عام. وبقي حلمه بسوريا حرة وحنينه إلى صحافتها المستقلة، فمجّد هذه الذكرى في كتاب تاريخي عظيم يروي فيه قصة نصوح بابيل مؤسس صحيفة «الأيام»، أحد أهم الصحف السورية المستقلة.
من المفيد التذكير بحال الصحف التي آلت إليه في حقبة نظام الأسد لمعرفة الفارق الكارثي بين ما كان من قبل وما أصابها من نكسة. كنت شخصياً في زيارة عمل إلى دمشق في عهد حافظ الأسد وزرنا رئيس تحرير صحيفة «البعث»، فسألته عن السياسة الإعلامية للصحيفة فقال لنا «نحنا بأمر صرماية المعلم». لذلك لم يكن غريباً إحباط وحسرة واكتئاب رياض الريس على ما أصاب بلاده وحلمه الوطني والقومي العروبي الذي أصابه الكثير من الصدمات والإخفاقات بشكل متوالٍ ومتتالٍ.
كان دواؤه هو العمل وإصداراته من الكتب، وترك مؤلفات تعتبر مراجع في التاريخ السياسي وعن مهنة الصحافة وتجربته الشخصية فيها. قراءة ممتعة فيها الكثير جداً من العبر والدروس والفوائد. كان همه التنوير والتثقيف، وشغوفاً بالحرية والعدالة والمعرفة، وحرص على إيصال كل هذه القيم العظيمة من خلال شخصه وداره وإصداراته. هزمه الإحباط قبل أن تهزمه «كورونا». أنهكه قلبه الحالم وأتعبه عقله المتأمل وصدمه الواقع البائس. عاش بمبادئه لم يساوم عليها رحل محترماً ومرفوع الرأس. ناشر حر بقلب صحافي عاشق ومتيم لمهنته الصعبة. رحل رياض نجيب الريس وبقي إرثه الشخصي والمهني الفريد الذي كرّسه للتنوير والتثقيف ورفع مكانة الحرية في المحيط العربي ومحاربة التطرف بشتى أنواعه. شكراً رياض الريس على رحلة ثرية وممتعة قدمت فيها لنا الكثير. رحمك الله.