توقيت القاهرة المحلي 11:01:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بين سويسرتين!

  مصر اليوم -

بين سويسرتين

بقلم: حسين شبكشي

كنتُ في اجتماع غير رسمي مع مجموعة من رجال الأعمال، أحدهم لبناني، وأخذنا الحديث، كما هي العادة في أحداث الساعة في المنطقة، وصولاً للوضع المتردي والمقلق والمخيف في لبنان من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والإنسانية؛ فعلق أحد المشاركين في الحديث معنا بقوله إنه من المحزن الوضع الذي يمر به لبنان، أو كما يسميه محبوه «سويسرا الشرق»، وهنا تنهّد الرجل اللبناني، وأضاف: «نعم، لبنان كان سويسرا الشرق؛ فأنت كان بإمكانك أن تتزلج على الثلوج في أعالي الجبال، وتنزل لتسبح في البحر، في اليوم نفسه، بشكل مدهش، وخلال اليوم تتمتع بالتسوق في أجمل المحلات التجارية لأهم العلامات المشهورة من عواصم الفخامة والأناقة من حول العالم، بالإضافة إلى التمتع بما لذ وطاب من الأطعمة المختلفة من مطابخ العالم، ناهيك بالترفيه والاستعراض بمختلف أشكاله».
تمعنتُ وأنصتُّ باهتمام لما قاله الرجل، وقلت له: «يا سيدي، إن المقارنة بسويسرا بحاجة لوقفة أعمق من ذلك؛ فسويسرا تؤخذ كحزمة متكاملة وليس بشكل انتقائي، ودعني أتوسع معك في مقصدي... سويسرا مثل لبنان، فهي أيضاً بلد صغير في حجمه الجغرافي، وتقع بين دول كبرى ومهمة ومؤثرة جداً ولها مطامع توسعية تاريخية، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ومع ذلك اختارت سويسرا الطريق الحيادي الصعب، وبقيت عليه، واختارت أن تكون دولة مدنية علمانية، وحافظت عليها، ورغم التنوع العرقي (فرنسي، وإيطالي، وسويسري) والانقسام المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت بشكل أساسي... في ظل هذه التحديات اختارت الدولة الصغيرة في قلب أوروبا الكبير، التي وُلدت من رغبة الفلاحين والمزارعين، أربع مقاطعات للاتحاد، منذ أكثر من 800 عام تقريباً، وبعدها كبر الاتحاد بانضمام مقاطعات أخرى له، ثم كانت ولادة الدستور السويسري العظيم الذي أتت مقدمته المبهرة كالآتي:
(المقدمة
باسم الله العظيم.
الشعب السويسري ومقاطعاته،
إدراكاً منهم لمسؤولياتهم تجاه الخليقة،
قرروا تجديد تحالفهم من أجل تعزيز الحرية، الديمقراطية، الاستقلال والسلام بروح التضامن والانفتاح تجاه العالم.
وعازمون على العيش معاً بالاحترام والمراعاة المشتركة لاختلافاتهم،
مدركين لإنجازاتهم المشتركة ومسؤولياتهم تجاه أجيال المستقبل.
وبمعرفتنا بأن مَن يمارسون حرياتهم هم فقط الذين سيظلون أحراراً، وأن قوة الناس تُقاس برفاهية وحال الأضعف منهم).
هذه المقدمة العبقرية هي التي صنعت الأرضية الحقيقية للتميز السويسري في مجالات عدة ومختلفة؛ بداية من التعليم والطب والقضاء والأمن، وصولاً لجودة الحياة ونوعيتها التي تأتي فيها سويسرا في المرتبات العليا لمؤشرات القياس المتعلقة بها. وكان نتاج ذلك التفوق الخدمي والصناعي في مجالات مهمة، مثل صناعة الساعات وحلوى الشوكولاته والأغذية والأدوية والمعدات الصناعية عالية الدقة والصناعة البنكية والتأمين والفندقة والسياحة، مما مكّنها من احتلال المكانة الريادية في هذه المجالات المعقدة، رغم وجود منافسين أقوياء وشرسين للغاية. ركزت سويسرا على الاقتصاد الذي يقدم قيمة مضافة، ويخدم أجيال المستقبل، ولم تهتم بنشوات تحدثها المناسبات والأحداث، ولا بجذب سباق (الفورمولا) للسيارات، ولا ببناء أطول عمارة، أو استضافة مسابقة ملكات جمال الكون، وغير ذلك. سويسرا تعمل بهدوء وبلا ضجة، ولكنها تتقنه. ولا تسمع شيئاً عن جيشها وتسليحه إلا عن طريق علامة تجارية تحمل اسمه، وتروّج لمبيعات منتجات تحمل اسمه، مثل سكين الجيب وساعة اليد وحقائب السفر. لن تجد في سويسرا ميليشيا منشقة تدعي المقاومة بزعامة من يحمي مطلوبين للعدالة الدولية، ويقسم بالولاء لدولة أخرى.
سويسرا حالة ثقافية عميقة؛ حالة مبادئ وقيم مهمة هي التي تجعلها مميزة بما أنجزته عبر السنين والزمن، وليست حالة جمالية سطحية كجاذبية واجهة الفاترينة لمحل فخم ببضاعة فاسدة داخل المتجر. عندما يتم الاهتمام بالعقيدة السويسرية مثل الاهتمام بالجمال السويسري، وقتها فقط سيستحق لبنان وعن جدارة وصفه بـ(سويسرا الشرق)، أما من دون ذلك، فلا».
استمع إليّ الرجل اللبناني بحزن، وقال لي: «كلامك مؤلم، ولكنني لا أستطيع أن أجادلك أو أخالفك؛ لأنك محق في كل ما قلتَه، وهذا هو الواقع بلا تجريد ولا تعقيد». تنهد الرجل قبل أن يكمل: «سويسرا عمرها 800 سنة، ولبنان 100... ما زال معنا وقت». وضحكنا وكلنا أمل بغد أجمل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين سويسرتين بين سويسرتين



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon