بقلم: حسين شبكشي
مع انتهاء أحداث ووقائع المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، الذي انتهت فعالياته منذ أيام قليلة، سرت مشاعر سلبية عند الكثيرين من الذين حضروا، مفادها أن المنتدى الذي كان قِبلة المقتنعين بفكرة نظام العولمة وأهميتها في تأسيس منهجية للتجارة البينية العابرة للحدود والثقافات، بات اليوم فاقداً لمكانته وقدرته التأثيرية في ظل صعود جديد وقوي ومخيف للصراعات بين القوى الكبرى، التي تتفاوت حدتها بين الحروب الباردة وساحات الحرب الساخنة.
وإذا كان الحذر لا يزال هو الفيصل حتى الآن في عدم حصول توسع كارثي للحرب الحاصلة بين أوكرانيا وروسيا لتصبح حرباً عالمية ثالثة بشكل حقيقي ومتكامل، وبالتالي بات المراقبون على قناعة بأن التركيز سيكون على الساحة الرقمية العريضة، التي ستكون عليها أحداث الحرب العالمية الثالثة بشكل مختلف تماماً عن سابقتيها.
كانت هناك قناعة عظيمة في السابق مفادها أن الشبكة العنكبوتية المعروفة بالإنترنت ستكون أداة ووسيلة فاعلة ومؤثرة لتسريع حركة التجارة البينية والعولمة، وأن العصر الرقمي سيصنع تاريخاً جديداً للعالم. بعد أن قدم لتلك الفترة بأنها نهاية للتاريخ فإن الصورة مغايرة تماماً اليوم... القوة الرقمية باتت مركزة في أيدي القلة من شركات التقنية العملاقة، وتحديداً في كل من الولايات المتحدة والصين والبعض منها في تكتل السوق الأوروبية، الذي أدى إلى تفتت رقمي أعظم في العالم. والتنافس المتزايد والمحموم بين الصين والولايات المتحدة في القطاع التقني تحديداً أدى إلى ضربات سيبرانية متزايدة في أعدادها وآثارها، وإن كانت محدودة الأهداف على أطراف ثالثة محسوبة على أحد الفريقين، كما زادت السرقات للأفكار والأموال الرقمية بشكل مخيف. وبينما تزداد أهمية ما يحدث على الساحة الرقمية من تطورات لافتة ومهمة تزداد معها أهمية شركات التقنية الكبرى وتزداد خطورة دورها، وبالتالي تزداد معها حظوظها في فرض شروط أفضل لصالحها في مفاوضاتها المستقبلية مع الحكومات لتتحول هذه الشركات إلى كيانات لا يمكن الاستغناء عنها. وبينما يستعد العالم لحدث رقمي واعتداء سيبراني يشبه أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) في أهميته أو حتى حدث رقمي بأهمية الاعتداء على بيرل هاربور وأدى إلى دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، يخرج علينا رأيان؛ الأول من العالميين أنصار العولمة مفاده أن الحكومات لن تتمكن من الحفاظ على الميزة التنافسية اقتصادياً وتقنياً إذا استمرت عقلية «التخندق» تسيطر عليها، ومن الصين أيضاً هناك صوت عولمي يقول إن الشرعية لقوة الصين الصاعدة يجب أن تكون في قدرتها على تأسيس مركز عالمي لتطوير التقنية في الصين، وبالتالي ستحسم المواجهة بين الأصوات العولمية والأصوات الوطنية بمن ينتصر مسخراً التقنية الحديثة لأهدافه، وهي أهداف لن ترى إلا في الساحة الرقمية.
لم يعد من الممكن الحديث عن شركات التقنية الكبرى بأنها أدوات في أيدي حكوماتها، ولكنها تحولت إلى لاعبين مؤثرين في الخريطة الجيوسياسية الدولية، ومن المهم جداً ملاحظة أن ثقافات شركات التقنية الكبرى هي مرآة لمجتمعاتها، فهي تعكس الصراعات الآيديولوجية، وبها الوطنيون والعالميون والتقنيون الفضلاء، وهو مسمى يطلق على مَن يعتقد أن التقنية قادرة على تحويل المجتمعات إلى مجتمعات مثالية وفضلى. شركات التقنية الكبرى تواجه ضغوطاً غير مسبوقة من حكوماتها لتكون أسلحة في ترسانتها، وبينما يعرف الكثيرون عن أهداف العالميين والوطنيين فإن الفريق الثالث المسمى التقنيين الفضلاء لا يقل أهمية عنهم، فهو باختصار يضم الرؤساء التنفيذيين النافذين والفاعلين والمؤثرين في شركات التقنية الكبرى، الذين لديهم أهداف وطموحات وأحلام تتخطى الأطر التقليدية لأهداف أعمال شركاتهم فيصبحون بها المسؤولين عن القضاء على الأمراض وتوزيع اللقاح وإنقاذ مناخ الكوكب وغيرها من الأهداف الكبرى، ليصبحوا في بعض الأحيان في مواجهات مباشرة مع بعض الحكومات. ويبقى السؤال القائم الذي يشغل المتابعين لهذا الشأن، وهو هل ستتغاضى الحكومات عن أحجام وقوى ونفوذ شركات التقنية الكبرى المتعاظم أم ستسعى لتفتيتها وإضعافها مما سيهدد مزايا تنافسية أتاحتها وكانت داعمة للاقتصاد؟ الإجابة المنتظرة عن هذا السؤال ستكون مفتاحاً لمعرفة شكل الحرب الرقمية العالمية المقبلة.