بقلم: حسين شبكشي
في دفاتر التاريخ بات بين دفاتها اسم غافريلو برينسيب، الطالب الذي حاول الانتساب لجيش الإمبراطورية الهنغارية النمساوية، ورفض طلبه بسبب قصر قامته، فغضب وقرر أن يثبت للعالم بأسره شجاعته وقوته، فقام باغتيال ولي العهد النمساوي الأرشيدوق فرانز فيرديناند وزوجته خلال زيارتهما لسراييفو في 28 يونيو (حزيران) 1914، وأدت هذه الحادثة إلى إعلان النمسا الحرب على سراييفو، فغضبت روسيا وأعلنت الحرب على النمسا، مما أدى إلى غضب ألمانيا وإعلانها الحرب على روسيا، فغضبت فرنسا وأعلنت الحرب على ألمانيا، فذهبت ألمانيا لتحارب فرنسا فدخلت أراضي بلجيكية، مما أغضب بلجيكا وبريطانيا على ألمانيا فأعلنتا الحرب عليها، فغضبت الدولة العثمانية لهجومهم على ألمانيا وأعلنت الحرب على الجميع، فغضبت أميركا وإيطاليا واليونان ورومانيا والبرتغال على العثمانيين وأعلنوا الحرب عليهم، واندلعت الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها أكثر من 16 مليون قتيل و8 ملايين مفقود ومليوني جريح... كل ذلك بسبب غضب غافريلو برينسيب!
تذكرت هذه الواقعة التاريخية وأنا أتابع الوقائع الإخبارية المتعلقة بالتنافس المحموم العنيف والانقسام الحاد بين أنصار الحزبين الجمهوري والديمقراطي في سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية. المشهد الحاصل الآن هو ترجمة للمنافسة العميقة وانعدام الود الشديد بين دونالد ترمب وباراك أوباما، الذي انفجر ذات ليلة في البيت الأبيض في شهر أبريل (نيسان) عام 2011. قبل هذه الليلة كان رجل الأعمال النيويوركي دونالد ترمب يتصدر حملة إعلامية تشكك في ولادة الرئيس الأميركي وقتها باراك أوباما في الولايات الأميركية، وبالتالي جدارته وخضوعه لشروط الترشح للرئاسة (قدمت إدارة الصحة بولاية هاواي الأوراق الثبوتية التي تثبت ولادة أوباما فيها فوراً، ولكن ترمب استمر مشككاً في الواقعة من دون تقديم ما يثبت شكوكه). ومع ذلك فوجئ ترمب بدعوة موجهة إليه من البيت الأبيض لحضور حفل العشاء السنوي على شرف المراسلين الذي يدعى فيه أيضاً بعض فناني الكوميديا لتقديم فقرات للسخرية من الأحداث السياسية الحالية، وألقى باراك أوباما خطاباً نارياً حاداً سخر فيه من دونالد ترمب بشكل غير مسبوق وأهانه وجعل منه أضحوكة أمام الناس ومادة للتشفي في نشرات الأخبار وعلى البرامج الكوميدية. في هذه الليلة بحسب الكثيرين من المقربين من دائرة ترمب الذين لم يروه غاضباً مثلها من قبل، قرر ترمب الانتقام من أوباما والتفكير في ترشيح نفسه لرئاسة أميركا. ومنذ وصول ترمب إلى الحكم وهو مهووس بتحطيم إرث أوباما من اتفاقية الضمان الصحي (أوباما كير) إلى الاتفاق النووي مع إيران، مدمراً كل ما بناه أوباما من إنجازات. والآن تأتي مواجهة أوباما - ترمب مجدداً، فجو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي هو نائب أوباما السابق (وقد لعب أوباما دوراً محورياً خلف الكواليس لإقناع قادة الحزب الديمقراطي بدعم بايدن على حساب مرشحين أكثر قبولاً وشعبية وظهر «أثر أوباما» على الحزب خلال فعاليات المؤتمر الانتخابي للحزب الديمقراطي الذي تصدر المشهد فيه باراك أوباما وزوجته ميشيل بانتقادات عنيفة وغير مسبوقة من رئيس سابق، مخالفاً الأعراف المتبعة بين الرؤساء السابقين، ضد ترمب الرئيس الحالي الذي بدوره غرد وعلق معترضاً بعنف.
أوباما يريد لنائبه بايدن أن يفوز ليعيد بناء الإرث الذي هدمه ترمب، وترمب مصر على المواصلة لمحو أوباما من التاريخ. خلاف شخصي بات من أهم محركات القرار السياسي في أهم انتخابات رئاسية في العالم.
تقول إيمي وانغ من الـ«واشنطن بوست» في تعليق لافت عن «أثر» عشاء المراسلين على نفسية ترمب وقراره بدخول المعترك السياسي بأنه «حاسم ومؤثر». مراسلة صحيفة «بوسطن غلوب» رينيه غراهام لم تخفِ كلماتها في وصف الانتخابات القادمة؛ إذ وصفتها بشكل صريح ومباشر بأنها «ترمب ضد أوباما 2020». ظاهر السباق الرئاسي هو معركة بين مرشحي الحزب الديمقراطي والجمهوري، وباطنها هو معركة شخصية بين اثنين يكرهان بعضهما البعض بشكل هائل وعظيم، وبسبب ذلك الأمر تكتسب هذه الانتخابات سخونة خاصة، وكأن السنة الحالية ليس فيها من الحرارة الهائلة التي تكفيها وتزيد!