بقلم: حسين شبكشي
على ما يبدو أن هذه السنة، سنة 2020، هي سنة التغييرات بمختلف الأشكال، وهي إن لم تصنع التغييرات فهي على أقل تقدير تحفزها وتساهم في الإسراع بحدوثها.
فبعد «اعتماد» التعليم عن بعد، ومن قبله العمل عن بعد، ومنع السفر وشروطه الصعبة والمعقدة، والإغراق في التطبيقات التي تحاصر المستخدم المجبور عليها، فتلغي بذلك خصوصيته، وبالتالي حريته، نرى تصاعداً مهماً وملحوظاً بقوة عن كثرة الخطوات الجادة التي تتخذها الحكومات والدول متمثلة في بنوكها المركزية لتقنين القبول بالعملات الرقمية، والاعتراف الرسمي بها. وذلك بعد مدة طويلة جداً من عدم الإقرار بها أو الاعتراف بجديتها كوسيلة تعامل مالي جدي ومحترم.
ولذلك كله يبدو الخبر الأخير الذي تم تداوله عن شروع سبعة بنوك مركزية كبرى في بدء تحديد الشكل المحتمل الذي ستبدو عليه عملة رقمية مخصصة للمساعدة على اللحاق بدور ريادي صنعته لنفسها الصين، وأيضاً التفوق على مبادرات خاصة لشركات عملاقة مثل عملة «ليبرا» الرقمية التي أطلقتها شركة «فيسبوك» العملاقة (مع عدم إغفال المشاريع المنتظرة للغرض نفسه من قبل شركات كبرى مثل «آبل» و«أمازون» و«غوغل» وغيرها).
الجدير بالذكر أن البنوك المركزية السبعة هي كل من: مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي)، وبنك إنجلترا، والبنك المركزي الأوروبي، والبنك الوطني السويسري، وبنك اليابان المركزي، وغاب عن هذه المجموعة المؤثرة والمهمة البنك المركزي الصيني المعروف باسم بنك الشعب الصيني. وغياب الصين عن هذه المجموعة المهمة جداً له دلالة واضحة وبالغة الأهمية، وهي أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة (وحلفاؤها) آخذة في التصعيد، بشكل واضح، وعلى كافة الجبهات الاقتصادية. الغاية الرئيسية من الحراك الجديد للبنوك المركزية، هو إيجاد وسيلة مالية جديدة رقمية في هيكلتها «معتمدة» في تشريعها، وتكون الغاية من كل ذلك سد فجوات المدفوعات المتزايدة بشكل مقلق وخطر جداً. العملات الرقمية منذ انطلاقتها، كانت مثاراً للسخرية والشك والخوف من قبل البنوك المركزية، ولم يتم الالتفات إليها بجدية إلا بعد إعلان «فيسبوك» العام الماضي عن إطلاق عملتها «ليبرا»، التي قيل وقتها إن العملة الرقمية الجديدة سوف تكون مدعومة بخليط من العملات الرئيسية والديون الحكومية. وتقدم البنوك المركزية هذه المبادرة، والتحديات الأمنية الجسيمة لا تزال تواجه العملات الرقمية في ظل الحديث المتكرر عن «اختفاء» فجائي لأرصدة بالمليارات من الدولارات من حسابات لعملات رقمية كبرى، أو الحديث عن استخدام هذه العملات لتمويل جماعات الإرهاب بمختلف أشكالها، أو استخدام العملات الرقمية في العالم السفلي لتمويل الاتجار بالبشر والتهريب وغسل الأموال وتجارة المخدرات، وغير ذلك من العمليات المشبوهة، ولكن البنوك المركزية تدرك اليوم أن العملة الورقية النقدية من أهم العناصر الميسرة لانتشار الفساد، وتشحيم تروس آلياته المدمرة لاقتصاديات الدول حول العالم. وليس ذلك فحسب، بل اليوم أصبحت هناك قناعة متزايدة أن العملات الورقية المتداولة هي أيضاً أهم وسائل استمرار ونمو الاقتصاد الموازي غير الخاضع للرقابة الضريبية والتحكم الحكومي، ويضاف لذلك أنها الملاذ الآمن للجريمة المنظمة بكافة أشكالها وأدواتها.
والصين لن تبقى وحدها خارج سياق الأحداث، فهي الأخرى ترى أن العملة الرقمية واقع جديد لا يمكن إغفاله ولا نكرانه أبداً، ولذلك قررت إصدار عشرة ملايين يوان في أول اختبار عام عريض للعملة الرقمية، على أن تبدأ هذه التجربة في الصين في الأماكن والواقع الأكثر تطوراً واستعداداً في الداخل الصيني، ومن ثم يتم اعتمادها وتوسيعها بالتدريج. العملة الرقمية هي صفحة جديدة من النظام العالمي الجديد الآخذ في التكوين، الغاية منه بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها إيجاد وسيلة سداد جديدة لمواجهة تحديات المدفوعات وتوسيع وسائل الدفع، أما بالنسبة للصين، فالموضوع مختلف تماماً، فالصين تعتبر العملة الرقمية الجديدة سلاحاً مؤثراً في ترسانتها لسحب البساط من تحت أقدام سيطرة الدولار الأميركي الأخضر على نفوذ الاقتصاد العالمي.
التنين الأحمر الصيني لديه قناعة بأنه إذا لم يتمكن من تفكيك سيطرة وهيمنة الدولار الأميركي على اقتصاد العالم، فلن يكتب له النجاح التام بأن يصبح القوة الاقتصادية الأولى حول العالم، وهذا هو هدف الصين الأول.