بقلم: حسين شبكشي
على الرغم من انشغال العالم المحقّ بسباق الانتخابات الأميركية المحموم، فإن الأيام القليلة الماضية كانت مناسبة تاريخية وفرصة مهمة جداً لكي يحتفي الناس بقيمة العلم في حياتهم، وذلك مع فرحتهم العظيمة وهم يتلقون خبر وبشرى الإعلان الذي جاء من شركة «فايزر» الأميركية العملاقة المتخصصة في صناعة الأدوية، عن لقاح فعّال لمواجهة جائحة «كوفيد - 19» الفتاكة بدرجة فاعلية نسبتها 90%، وهي نسبة عظيمة جداً، مقارنةً بلقاح الإنفلونزا الذي تنحصر فاعليته بين 40 و60%.
وهذا الاكتشاف الطبي المهم الذي ينتظره العالم على أحرِّ من الجمر والذي جاء عن طريق الشركة الألمانية «بايونتيك» والتي تملكها «فايزر»، وتحديداً من الموظفين الزوجين المهاجرين التركيين أوجر شاهين وأوزليم توريسي، لا يقدم حلاً فعالاً وناجحاً لمواجهة فيروس «كورونا» فحسب، ولكنه يقدم حلاً تقنياً يُعدّ جهاز المناعة ليكون جاهزاً لمواجهة كل أنواع الفيروسات التي قد تعترض الإنسان. وبالتالي لم يبالغ المعلِّقون على الخبر حينما وصفوه بأنه «ثورة طبية معاصرة بمعنى الكلمة». وسيكون التحدي الأعظم أمام اللقاح المنتظر هو توزيعه وتخزينه لأنه بحاجة إلى أن يتم تخزينه في بيئة باردة جداً تبلغ درجة الحرارة فيها 70 تحت الصفر أو أقل، وهذا الشرط -حسب شركة «فايزر»- سيعيق توصيل اللقاح إلى القرى والأقاليم النائية ودور المسنين، أو الدول الأقل ثراءً وقدرة، ولا تستطيع بالتالي تحمل تكلفة تجهيز وحدات التبريد، ولذلك أبدت الشركة المصنِّعة استعدادها لتصنيع اللقاح على شكل مسحوق، وبالتالي لا يستوجب هذه النوعية الاستثنائية والقياسية الصعبة والمعقدة من التجهيزات المطلوبة.
ولم يكن هذا هو الخبر العلمي الوحيد المبهج والمنتظَر والمهم، بل هناك خبر آخر لافت وهو نجاح شركة «فيرجن هايبر لوب» في تجربة نظام الانتقال الجديد، والمستحدث المسمى «هايبر لوب» بركاب من البشر، وهذا الاختراع سيختصر المسافات بين المدن والبلاد، وينقل البشر والبضائع في أزمنة سريعة وقياسية تتفوق على الطائرات والقطارات والسيارات وبشكل أكثر فاعلية وملاءمة، وسيكون صديقاً للبيئة وباستهلاك أقل للطاقة، ومن دون أضرار على البنى التحتية في المدن. إنه إنجاز عظيم ونقلة نوعية في الحلول الإبداعية التي قدمتها البشرية عبر الأزمان في تعاملها مع تحديات التنقل المستمرة.
ولكن حقيقة الأمر أن هذين الخبرين ما هما سوى نصر مدوٍّ لقيمة العلم والتسامح. العلم بدعم الدول والمؤسسات الأهلية له تمكن من إنجاز المطلوب، والتسامح بسياسات التعايش مع الآخر، التي فتحت الأبواب واستقبلت أهم العقول وولدت أعظم الأفكار. هناك مقولة تُنسب إلى الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، حينما سُئل عن أهم سبب يضمن الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية فما كان منه سوى الإجابة: «إنه الاقتصاد يا غبي»! ولكن الانتخابات الأخيرة أظهرت أن هناك عنصراً أهم من الاقتصاد، يعني أغلبية الناخبين في الولايات المتحدة، والعنصر المعنيّ هنا هو «القيم VALUES» و«المعدن CHARACTER»، وهو بالتالي أهم من الاقتصاد الذي كان جيداً، ويحقق أرقام نمو مميزة قبل الجائحة المدمِّرة وتبعياتها. عنصر القيم والمعدن، هو الذي لا يحقر خصمه ويهينه ويسبه ولا يتنمر على غيره بإهانته للونه أو لدينه. هذه قيم الكراهية والعنصرية والتعصب الأعمى، والتي لا تولِّد إلا مجتمعات غير متصالحة مع نفسها وغاضبة مع غيرها حول العالم. إنها القيم والمعدن، قبل الاقتصاد والسياسة.
أيضاً للرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي مقولة لافته ومؤثرة يقول فيها: «لا تصلّوا لأجل حياة سهلة، ولكن صلّوا لأجل رجال أقوياء». القيادة الناجحة ترتقي بشعبها بالقيم التي تتبناها وتطبِّقها، أو كما وصف ذلك ببلاغة الرئيس الأميركي الأسبق أبراهام لينكولن حينما قال: «معظم الرجال يستطيعون مواجهة الصعاب، ولكن إذا رغبت وأردت اختبار معدن الرجال امنحهم السلطة». القيم التي يتفق عليها الناس أصيلة، فالأساس والفطرة هي المحبة والتسامح والتعايش، ويبقى الاستثناء دوماً لكل ما هو عكس ذلك. مع احتفال العالم المحقّ بهذه الأخبار المبهجة، لا بد من التمعن بعمق في أصل وأسباب هذه الأخبار والروح الباعثة لها، حتى ندرك تماماً أهمية القيم التي جاءت منها، وبها، وبالتالي يمكن أن نعززها بشكل مستمر في أوجه الحياة كافة. قالوا قديماً إننا مقبلون على صراع الحضارات... أعتقد يقيناً أننا أمام صراع قِيم، حسب أيِّها نتبنى سيشكّل ذلك مستقبلنا.